في عمران الكذب 2- 4

نشر في 27-02-2008
آخر تحديث 27-02-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي

في اقتصاد المقايضة يكون الاتصال المباشر وقراءة ملامح الوجه وثبات المكان، وكذلك معرفة البائع في الحي، تكون هذه العوامل هي أدوات التأكد من الصدق والابتعاد عن الكذب والزيف. بينما النظام الحديث طور مؤسسات رقابية تجعل البعد المكاني ليس بمشكلة في مسألة التحقق من الحقيقة والغش.

معمار الزيف مقابل معمار الحقيقة، المعمار الذي يكون مساعداً على قول الحقيقة والشفافية مقابل معمار التخفي والباطنية، والقرب المكاني أو الزماني يكون أساسياً في تصنيف الحقيقة والكذب... فالكذب في المؤسسات الحميمية أو القريبة مكانياً له تكلفة وثمن باهظ. فالكذب على الزوج أو الزوجة فقد يؤدي إلى الطلاق، لأن الكذب في حالة الزواج غير متوقع بين الطرفين، ونتيجة لحدوثه بشكل صادم في سياق قريب جداً فإنه يؤدي إلى القطيعة التامة في أغلب الحالات، وذلك لأن العلاقات القريبة جداً لا تحتمل الكذب. الكذب بين الأصدقاء يؤدي إلى الاختلاف أيضاً. في بعض الأحيان، يخلط الفرد بين علاقة العمل البعيدة والصداقة، فهو يدعي صداقة رئيسه ولكنه في الوقت نفسه يروج لنفسه أو لعمله بمبالغات تصل أحيانا إلى مستوى الأكاذيب، لذا نجده يتأرجح في اليوم الواحد بين علاقة الصديق المبنية على الصدق وعلاقة الموظف التي تسودها المبالغة الكاذبة، ونتيجة لهذا التأرجح نجد أن هذا النوع من العلاقات هو أكثر العلاقات اضطراباً.

أما الكذب في حالة البيع والشراء فهو أمر متوقع، على الأقل في مجتمعاتنا العربية التي تساوم على كل شيء، والتي تخلو من مؤسسات كشف الزيف، فتكون العلاقة في السوق بين بائع ومشتر وبضاعة، وليس أمام المشتري سوى الاعتماد على ذكائه الخاص لكشف زيف البضاعة أو كشف ألاعيب التاجر، وهذا ما سأوضحه بالأمثلة لاحقاً. في النظم الحديثة مجموعة مؤسسات حاكمة لفرز الصدق من الكذب الأساسي فيها هو عمران الشفافية. الكذب والصدق يرتبطان بنظام معرفي ومجموعة من عمليات التوثيق، يقوم الأفراد بعملية توثيق المعلومات وفرز الحقيقة من الزيف في المجتمعات الصغيرة (القرية)، ذلك لأن العملية الاتصالية الاجتماعية هي علاقة مباشرة (وجهاً لوجه)، أما بعد أن ينتقل الأفراد من حالة ريفية إلى حالة مدنية فيتحول الاتصال من اتصال مباشر إلى وسائط اتصال تضمن عملية فرز الصادق من الكاذب. فإذا أخذنا مثال الشراء والبيع في القرية حتى مطلع السبعينات من هذا القرن، لوجدنا أن اقتصاد المقايضة هو السائد. والمقايضة أمر يعتمد على الاتصال المباشر الذي تنظر فيه لوجه الشخص المقابل وتتفحص تعابير وجهه، وأنا شخصياً قمت في طفولتي بمقايضة حبوب أو بيض الدجاج بحلويات من دكان القرية، واليوم أقوم بشراء الكتب من شركة «أمازون» على الإنترنت عن طريق الكردت كارد (Credit Card)، أي أضع أرقام الكارت في شاشة الكمبيوتر وتأخذ الشركة ثمن الكتب من حسابي، ولدي كامل الثقة بأن الشركة لن تأخذ أكثر من حقها وبأن أموالي لن تسرق، ذلك لأن النظام الحديث طور أدوات التأكد من الصدقية، سواء من ناحية البائع (أي أن المشتري إنسان حقيقي، له حساب بنكي حقيقي) أو من ناحية المشتري (أي أن البائع صادق وليس نصاباً).

وباختصار، في اقتصاد المقايضة يكون الاتصال المباشر وقراءة ملامح الوجه وثبات المكان (أي وجود دكان في مكان ثابت)، وكذلك معرفة البائع في الحي، تكون هذه العوامل هي أدوات التأكد من الصدق والابتعاد عن الكذب والزيف. بينما النظام الحديث طور مؤسسات رقابية تجعل البعد المكاني ليس بمشكلة في مسألة التحقق من الحقيقة والغش، الصدق والكذب... مؤسسات تعمل بدقة تضاهي الاتصال المباشر وضوابطه الخاصة بالصدق من عدمه. وهذا لا يعني بالضرورة القضاء على الغش والكذب تماماً، لكن الكذب يبقى في إطار قول سبنسر وبارنز في حدوده الدنيا بمحاصرة ازدياد مساحته.

لكن يقف ما بين حالة الاتصال المباشر في القرية وحالة مجتمع المخاطرة ما بعد الحداثي في الغرب حالة مجتمعات ومدن تقف في منزلة ما بين المنزلتين، لا هي بالقرى التي تعتمد على اقتصاد الاتصال المباشر، ولا هي بمدن ما بعد الحداثة والرأسمالية العالمية التي تحكمها مؤسسات التأكد من الصدقية على غرار الشراء على شبكة الإنترنت.

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية-IISS

back to top