مبادرة بكركي تحرج الجنرال
أي انفراج سياسي لبناني يدفع الدور السوري من صعيد السياسة إلى صعيد الأمن الصرف، فيتوسل النظام بالخروق الأمنية للإيحاء بشبهة دور مؤثر، تجعله حديث المنتديات السياسية في المنطقة والعالم.كان التصعيد الذي شهدته الأيام الماضية بين فرقاء النزاع اللبناني متوقعاً، وقد وصلت معركة تعطيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في الثالث والعشرين من الشهر الماضي إلى ذروتها باكراً، مما جعل بعض المراقبين يبدون شكوكاً عميقة في نية فرقاء النزاع تمرير الاستحقاق اللبناني المتمثل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية بحد أدنى من الخسائر. وفي ظل هذه الأوضاع المتأزمة والمهيأة للانفجار بات النظام السوري المتدخل في الشؤون اللبنانية حاضراً بقوة في المشهد السياسي العام، فبعد أن استطاع بعض الانفراج في العلاقات اللبنانيةـ اللبنانية الذي عبرت عنه مبادرة الرئيس نبيه بري إقصاء النظام السوري عن تصدر المشهد العام، عاد الدور السوري إلى الواجهة مجدداً، معبراً عنه بتصريحات اللبنانيين النارية في مواجهة بعضهم بعضاً، ومتوجاً بالحديث الصحفي الذي أدلى به الرئيس بشار الأسد إلى صحيفة الشروق التونسية. وعلى عادة النظام السوري فإن أدواره تتعاظم في لحظة انفجار الخلافات بين اللبنانيين، محاولاً قدر المستطاع أن يضع نفسه طرفاً في هذه الصراعات، ذلك انه منذ صدور القرار 1559 الخاص بلبنان، والداعي في أحد بنوده الأساسية إلى انتخابات لبنانية رئاسية من دون تدخل خارجي، سوري على وجه الخصوص، بات التدخل في الأزمة اللبنانية والخلاف الداخلي اللبناني البوابة الوحيدة المتاحة للنظام السوري لادعاء دور ما على مستوى أزمات المنطقة، هذا الدور يتغذى من الخلافات اللبنانيةـ اللبنانية وهو من دون شك يغذيها ما أمكنه ذلك. لكن أي انفراج في هذه العلاقات، حتى لو كانت أسبابه الحقيقية ليست أكثر من وصول الأطراف اللبنانية إلى ذروة مآزقها، واستحالة تحقيق أي تقدم يقتحم خطوط التماس المحصنة بين الفرقاء، أي انفراج سياسي لبناني يدفع الدور السوري من صعيد السياسة إلى صعيد الأمن الصرف، فيتوسل النظام بالخروق الأمنية للإيحاء بشبهة دور مؤثر، تجعله حديث المنتديات السياسية في المنطقة والعالم، لكن الدور السوري في لبنان لا يمكن اعتباره دوراً مضمحلاً، فمنذ خروج الجيش السوري من لبنان في ربيع عام 2005 بات الدور السوري حليفاً موضوعياً للأطراف اللبنانية التي تخاف من المستقبل القريب والبعيد، والتي تشعر بأن الاستقرار يجردها من جميع أسلحتها ويجعلها من دون موارد تعينها على الصمود في مرحلة الاستقرار المقبلة، وهذا ما كان من شأن «حزب الله» في ربيع وصيف عام 2005، إلى أن أنقذه من عزلته اللبنانية والدولية جلسات حوار مديدة، أدت إلى تثبيت أقدامه طرفاً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه. وهذا أيضاً ما يبدو أن «التيار الوطني الحر» بزعامة الجنرال ميشال عون يعانيه فعلاً، إذ يطمح هذا التيار أيضاً إلى انتزاع اعتراف لبناني وعربي ودولي بدوره المؤسس في المرحلة المقبلة، ولا يجد مفراً أمام التجاهل الدولي والعربي من إصراره على التعطيل والتحالف موضوعياً مع الخاسر الأكبر في هذا السياق، الذي يتمثل في النظام السوري على الساحة اللبنانية. ومثله مثل النظام السوري فإن «التيار الوطني الحر» يتأذى من أجواء الانفراج، والأرجح أن هذا ما يفسر الإرباك الذي يصيب هذا التيار من جراء تنامي دور البطريركية المارونية ومحاولتها الجادة في رأب الصدع بين المسيحيين في صورة أساسية بما يتيح لها فرض رئيس توافقي مسيحي على الطوائف الأخرى المؤثرة، وتالياً تحديد شخص الرئيس. فبالنسبة إلى «التيار الوطني الحر»، يبدو أي توافق مسيحي تحت عباءة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير استبعاداً حتمياً لمشروع التيار القاضي بإيصال رئيسه إلى سدة الرئاسة، بينما لا يبدو فريق «14 آذار» المسيحي مرتبكاً على هذا المستوى، إذ إن هذا التيار يملك مساحة واسعة من الخيارات والاختيارات تجعل معظم مرشحي الرئاسة اللبنانية يقعون موضوعياً في صفه. كثيراً ما يقسم المحللون السياسيون فريق «14 آذار» إلى حمائم يمثلهم رئيس كتلة المستقبل النيابية الشيخ سعد الحريري، وصقور يمثلهم الزعيمان الدرزي وليد جنبلاط والماروني سمير جعجع، وقد يكون لهذا التقسيم أسبابه الوجيهة، ويمكن اعتباره صحيحاً في معنى من المعاني، لكن قدرة فريق «14 آذار» على الانقسام بين حمائم وصقور لا تقابلها قدرة في الفريق الخصم على مثل هذا الانقسام. لأن فريق «8 آذار» لا يملك القدرة على المساومة فهو إما يخسر وإما يربح، وهذه نقطة ضعفه الأساسية، لهذا لا يجد أركانه بُداً من التهديد بالويل والثبور أمام كل محطة، واللجوء إلى التهديد بفرط السلم الأهلي الهش، وهم في ذلك، موضوعياً، يضعون أنفسهم في خانة النظام السوري الذي لا يملك قدرة على التأثير إلا بإشعال النار وتدمير الهيكل. * كاتب لبناني