خذ وخل: أحمد الدعيج ورؤيته المبكرة لـ البدون

نشر في 26-12-2007
آخر تحديث 26-12-2007 | 00:00
 سليمان الفهد

يبدو- بحق- أننا بحاجة ماسة إلى عودة لجنة تقصي الحقائق إياها التي أُنشئت بعد التحرير، مادام البعض ما برح يلوك الاتهامات «الغيورة» المرسلة الخاوية من البيّنات والدلائل، النافية لمبدأ «البيّنة على من ادعى»

* تمخّض اجتماع مجلس الأمة بشأن ملف التجنيس فولد تأجيلاً له إلى حين معلوم، أو إلى أجل غير مسمى، بحسب تباين الموعد، كما أوردته صحف أمس الثلاثاء، أياً كان مبرر التأجيل وسببه، فنأمل ألا يكون إلى حين تحج البقر على قرونها! وإذا كان الملف قد يحتمل التأجيل، فإن الحصار اللا إنساني الذي يزنر «البدون» من كل صوب، عصي على التأجيل والتسويف والمماطلة وما إلى ذلك من السبل الساعية إلى الإمعان في زيادة معاناتهم المعاشية القاسية الجائرة؛ التي باتت معروفة للقاصي والداني داخل البلاد وخارجها ولا فخر! وأصبحت تشكل سُبةً في جبين الكويت «الناصع»! وجملتي الأخيرة ليست جاهزة ومجانية ومرسلة، بل هي مرآة لواقع الحال المزري الذي يكابده أخواننا البدون، ويتجلّى في منعهم من العمل، والتعليم، واللجوء إلى المستوصفات والمستشفيات، وقيادة المركبات السيارة بالوقود، ولا بأس عليهم من امتطاء البعارين والحمير و «الموتو- رجل» لكونها مطايا لا تحتاج قيادتها إلى رخصة وإجازة من إدارة المرور بوزارة الداخلية ولله الحمد!

في الوقت الذي تجد فيه العامل الآسيوي- وغيره- يحصل على إجازة قيادة السيارة، بعد وصوله بشهر يزيد أو ينقص، لكنه في النهاية يحصل عليها بمنأى عن أي معوقات إدارية بيروقراطية تنحاز إلى المقيم الجديد الطازج بمنحه الحقوق الإنسانية المشروعة كلها، كما المواطن نفسه إلا قليلاً، إن جاز التعبير، وإن لم يصح.. حسبك البحلقة في اسم الزاوية! أليست مفارقة ظالمة جداً تلك التي تتبدى في منح العامل القادم لتوه أغلب حقوقه الآدمية التي تمكنه من الإندماج في نسيج المجتمع، بينما تمنع الحقوق ذاتها عن مجتمع البدون المقيم في الوطن، المسكون به، والذي تربطه بأهالي الكويت وشائج العروبة والدين والزيجات المتبادلة، وغيرها، فضلاً عن مشاعر ومواقف الولاء والانتماء، التي تجلّت بأبلغ معانيها، إبان محنة الاحتلال التي لا يمكن طمسها بشهادات الزور، وعمليات خلط الحابل بالنابل التي يلجأ اليها المعارضون لمبدأ تجنيس هذه الفئة المظلومة، كلما برز توجه لتجنيس المتسحقين منهم وفق المعايير المعتمدة!

ويبدو- بحق- أننا بحاجة ماسة إلى عودة لجنة تقصي الحقائق إياها التي أُنشئت بعد التحرير، مادام البعض ما برح يلوك الاتهامات «الغيورة» المرسلة الخاوية من البيّنات والدلائل، النافية لمبدأ «البيّنة على من إدعى» وقاعدة: المتهم بريء حتى تثبت إدانته. فما بالك إذا كان القوم الشرفاء قد أُدين من ثبت تعاونه مع المحتلين، ولم يعد ثمة أحد منهم موضع اتهام وشك وريبة.

* إن الإهانة التي وجهت إليهم من معارضي تجنيسهم تنسحب على مجتمع الصامدين في الكويت المحتلة! ذلك أن إتهامهم إياه، يعني بمعنى من المعاني، أن الصامدين يتسترون علي وجود «خونة» يعيشون وسطنا ومعنا دون إخطار السلطات المختصة! أفهم أن بعضهم يرفضون تجنيس «البدون» بذرائع «شوفينية» إقليمية عنصرية، ومعلومات استخباراتية مصاغة بمداد مخابرات الأعداء المحتلين، قد تنطلي على الراغبين في التخلص من عبء وجودهم، ولكن شهود العيان من الصامدين يدحضون هذه الافتراءات التي أشاعها المحتلون طوال فترة الاحتلال، لكن موقف «البدون» من المحتلين البغاة، الذي يضاهي ويتماهى مع موقف الصامدين بكل تجلياته، أجهض محاولة الأعداء لدق إسفين بين الكويتيين بالتأسيس، وبين الكويتيين بالاختيار والممارسة والفعل، حيث كان منهم: الشهداء، والجرحى، والأسرى، والمجاهدين المناضلين كأقرانهم القاطنين في «كيفان والخالدية والشامية وصباح السالم والسرة والرميثية ومشرف وبيان وكل مكان وجد فيه بعض الصامدين، وقد وثّقت هذه الشهادة بشأن دور أخواننا البدون في الجزء الأول والثاني من كتابي «شاهد على زمان الاحتلال العراقي» من دون أن يردْني أي تعليق يُكذّب أو يصحح معلومة وحيدة يتيمة وردت فيه! وأزيدك من الشعر في هذا السياق بيتاً.. فأقول: إني رصعت الصفحة الأولى من الجزء الثاني من كتابي بعبارة إهداء إلى: «الجهراوية.. أم سعد الكويتية بالفعل والانتماء.. لا بالجنسية.. تأكيداً لقناعتي اليقينية بأن جُل «البدون» استجابوا لتحديات الاحتلال وممارساته الإجرامية بروح المواطن، سيما أن المحتلين لم يفرقوا بينهم وبين الصامدين الكويتيين، والحديث ذو شجون وشجن لا مجال للخوض في تفاصيله الفروسية الناصعة في المساحة المتاحة.

وحسبي ما سطرته ص 113 بالنص الحرفي بمعرض حديثي عن دورهم أثناء الاحتلال: «فعلى سبيل المثال: فإن هذه الفئة التي تقيم في المساكن الشعبية- أو الشعبيات- كما يسمونها في محافظة الجهراء، أثبتت ولاءً وانتماءً وقدمت تضحيات وعطاءً لا يقل عن فعل المواطن بالتأسيس، وبيته على شارعين! وقلت- مستطرداً- ولعلهم أكثر الصامدين معاناة وعرضة للموت والسلب والاعتقال.. إلخ، لكنهم ثبتوا وصمدوا ورابطوا، ولم يرضخوا للتهديد، أو يسقطوا في مستنقع الإغراء الطافح بالخيانة والغدر. نعم لقد حاول «الأخوة الأعداء» الصيد في الماء العكر لقانون الجنسية، لأن بعض فقراته شاذة وغريبة وتشكل تربة خصبة لزراعة الفتن؛ الساعية إلى تقويض معمار الأسرة الواحدة، كما يحلو لنا نعت مجتمعنا، أقول إن هذه المحاولات الإجرامية كلها فشلت فشلاً ذريعاً أثار حفيظة الاستخبارات الصدامية وعربدتها الإجرامية. والحق أن القضية السكانية في الكويت جوهرية وحيوية لا يجوز التعامل معها ومقاربتها بخفة ومزاجية ومعايير مزدوجة، وتسييس سلبي، لأنه منحى ظالم قد يفضي إلى نتائج لا تحمد عقباها! يقول عمنا الشاعر المعروف الأستاذ مظفر النواب:

سبحانك، كل الأشياء رضْيت سوى الذل

وأن يوضع قلبي في قفص بيت السلطان

وقنعت بكون نصيبي في الدنيا.. كنصيب الطير

ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان.. وتعود إليها

وأنا مازلت أطير...

ويقول الصديق الكاتب أحمد الدعيج في مقالة نُشرت بصحيفة «الوطن» في 4 نوفمبر 1982، وعنوانها: (الجنسية لمن نحتاج، والإقامة الدائمة إن تعذر)، يقول: (إنه من الذين أيدوا تجنيس البادية في الستينيات، ونسي الذين اعترضوا على ذلك أن سكان البادية عرب أقحاح مثل غيرهم، ولكن كان الرأي هو ألا تقصر التجنيس على البادية، فتجنيس سكان البادية أضاف- في بداية الأمر- عبئاً كبيراً على الاقتصاد الوطني، إلى أن تحضّروا ودرسوا وتطبعوا بطباع المدن، وأصبحوا مواطنين عاديين، وولد أبناؤهم وهم كويتيون.

وكما هو دأب «أبو زياد»، رحمه الله، بوضعه النقاط على الحروف، يكتب في موقع آخر من مقالته، بحسه الاستشرافي، وعقله المضيء المستنير في مقاربة مباركة لمحنة «البدون» فيقول: «هناك مشكلة أخرى غير ظاهرة للعيان، ولكنها تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم بسبب عدم الجدية في حلها، بل في تجاهلها التام والمتعمد. وهي مشكلة من لا جنسية لهم، وعددهم يصل إلى الآلاف، وهم جميعاً من مواليد الكويت، ولا يوجد بلد في العالم يمكن أن يَرْحلوا أو يُرَحّلوا إليه. ولهذا فهم باقون هنا إلى الأبد.

وكعادته في حسم الأمور يقول لنا بحسم ووضوح: «لا يوجد حل وسط لمشكلتهم، فالحل: هو في إعطائهم الجنسية مرة واحدة، والتخلص من هذا الوضع الشاذ، وإلا فإننا نكون قد مهدنا الطريق لتربية جيل لا أمل له في حياة معقولة، وربما دفعه اليأس إلى الجريمة أو إلى أكثر من ذلك في الظروف السياسية التي تمر بها المنطقة». رحم الله أبو زياد وغفر له.. فكأنه خطَّ مقالته اليوم.. حاضرٌ دوماً رغم غيابه المحتوم.

back to top