الاستراتيجية: العلم التاريخي المتجدد

نشر في 04-10-2007
آخر تحديث 04-10-2007 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

ترتبط الاستراتيجية والتكتيك برباط غير منفصم، فكلاهما يستخدم أدوات معينة في مديين زماني ومكاني محددين لتحقيق أهداف بعينها. ولكن الاستراتيجية تهدف إلى تحقيق الأهداف الأعلى والأسمى، في حين يهتم التكتيك بتحقيق الأهداف المرحلية القصيرة الأجل، وعملية خلق الاستراتيجية يطلق عليها التخطيط الاستراتيجي.

يعد مصطلح الاستراتيجية من أكثر المصطلحات تداولاً في المناقشات السياسية في العالم، وبالرغم من انتشاره وذيوعه تختلط دلالاته لدى الكثيرين، وبشكل يحرف بعضاً من هذه المناقشات عن جادة الصواب. والاستراتيجية هي العلم الغامض والمتجدد، وُجدت ونشأت منذ أزمان سحيقة وكانت مرادفاً لتطور المجتمعات القديمة من مجتمعات بدائية إلى مجتمعات تسعى إلى حماية نفسها وهزيمة خصومها. ارتبط صعود وهبوط الإمبراطوريات العظمى عبر التاريخ بعلوم الاستراتيجية، كما أن تغير خرائط العالم القديم والحديث كان دوماً رهناً بالعمليات العسكرية الكبرى. ولذلك يرتبط تاريخ العالم ارتباطاً وثيقاً بالاستراتيجية، حيث عكست المعارك الحربية الكبرى التي خلدها التاريخ مثل معارك رمسيس الثاني، الإسكندر الأكبر، يوليوس قيصر، هنيبعل، جنكيز خان، ونابليون بونابرت، وعياً استراتيجياً فائقاً.

أما اليوم فالاستراتيجية هي علم العلوم التي تدمج في طياتها القدرات والمعارف للوصول إلى تحقيق الأهداف بطريقة منهجية ومخططة. وتعرف الاستراتيجية -بشكل عام ومبسط- على أنها المجهود المخطط الطويل المدى لتحقيق الأهداف الموضوعة سلفاً، ولكن مصطلح «الاستراتيجية» لا يقتصر على العلوم العسكرية فقط كما في الماضي، بحيث صار يستخدم على نطاق واسع في حقول معرفية مختلفة مثل السياسة والاقتصاد، وحتى أنواع الرياضة البدنية أيضاً. ولذلك ينتشر مصطلح «الاستراتيجي» انتشاراً كبيراً في عصرنا الراهن بلغات العالم كلها، ويمكنك أن تسمع كثيراً مصطلحات مثل: استراتيجية الهجوم، استراتيجية الدفاع، دون أن تعرف للوهلة الأولى ما الدلالة المقصودة من استخدام المصطلح، هل هي وصف المعارك العسكرية أو حسم الصراعات السياسية أم كسب المنافسات الاقتصادية؟

يشترك مصطلح «الاستراتيجية» مع مصطلحات جامعة مانعة أخرى مثل «الفلسفة» و«الديموقراطية»، في كونها كلها ذات أصل يوناني واحد مركب من زواج معنيين لينجبا المصطلح الذي يحمل معنى مغايراً عن المعنيين الأبوين. الأول، مشتق من معنيين هما فيلو-سوفيا أي محبة الحكمة، والثاني من ديمو- كراتيس أي حكم الشعب، والثالثة سترات- إيجوس أي قائد الجيش، ولذلك تكون «الاستراتيجية» هي قيادة الجيوش. واندرجت عمليات التمويه والخداع تاريخياً تحت مصطلح «الاستراتيجية»، فقد ظهرت طرق التمويه في الشرق الأقصى وبالتحديد في الصين، إذ رصدت هناك من أزمان غابرة طرق التمويه وتكتيكات الخداع، كما يظهر في كتاب «فن الحرب» الذي ألفه سون تسو 500 عام قبل الميلاد. وما زال كتاب «ستة وثلاثون خطة» الذي ألفه الاستراتيجي الصيني تان داوجي، قبل أكثر من ألف وخمسمئة عام، من أهم الكتب في المكتبات الصينية. ويحتوي الكتاب -للمفارقة- على طريقة للحصول على عروس بطريقة استراتيجية! أما في عصر مينغ (1368-1644) فقد تمت إعادة الاعتبار للأعمال الاستراتيجية الكلاسيكية الصينية، ومن طباعات هذه الفترة أمكن للعالم التعرف على فنون الحرب والاستراتيجيات الصينية. وفي الهند يعد كتاب «أرثاشاساترا» الذي كتبه المؤلف الهندي كاوتيليا عام 400 قبل الميلاد، العلامة الأبرز على الفكر الاستراتيجي في شبه القارة الهندية. ولا يختلف العرب عن تراث الشرق، إذ اعتبرت لديهم عمليات التمويه والخداع جزءاً من التراث الاستراتيجي منذ قرون. ويبدو ذلك بوضوح في كتاب بعنوان «رقائق الهلال في دقائق الحيل»، الذي تم تأليفه عام 1500، وتحتفظ المكتبات الأوروبية بنسخ منه، ولكنه لا يلقى انتشاراً لدينا للأسف. تغير الحال في أوروبا منذ القرن الثاني عشر على الأقل، إذ بدأت طرائق التمويه تنتشر في الفكر الاستراتيجي الأوروبي على يد المفكر العربي الأصل ابن ظافر الصقلي. وحيث توقف ابن ظافر بدأت الشخصية الأوروبية الأشهر في هذا المجال ميكيافيللي صاحب كتاب «الأمير»، والذي أصبح عَلماً من وقتها وحتى اليوم على البراغماتية. وفي العصور اللاحقة اشتهر الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور المتوفى عام 1860 باعتباره «أبو التمويه السياسي» في أوروبا.

حاول الاستراتيجيون العسكريون طوال التاريخ وضع لائحة، أو قائمة من المبادئ، التي تضمن الاستراتيجيات الناجحة، ومن أشهر هؤلاء الصيني سون تسو الذي استعرض في كتابه «فن الحرب» خمس عشرة طريقة للتمويه والخداع على درجة عالية من التعقيد والدهاء. أما نابليون بونابرت فقد وضع بالمقابل 115 طريقة للتمويه والخداع؛ مع أنه وقع في حبائل كثير من الطرق التي ألفها بنفسه إبان معاركه مع روسيا. أما الجنرال ناتان بدفورد فورست، قائد القوات الفدرالية الأميركية في الحرب الأهلية الأميركية، فقد صك مقولة واحدة تلخص أفكاره هي: فلتكن في الميدان قبل خصمك وفي جانبك العدد الأكبر من الرجال. وتحمل المقولات المأثورة عن الاستراتيجيين قدراً مذهلاً من المعاني ولها في أحيان كثيرة صلاحية تطبيقية في عصرنا الراهن. ولنتأمل هنا كتاب «فن الحرب» الذي أتينا على ذكره سابقاً، فنجد فيه مقولة عبقرية هي «أسرع إلى المكان الذي لا يتوقع الخصم أن تكون فيه»، أو مقولة الاستراتيجي الأشهر الألماني كارل فون كلاوزه فيتز، صاحب المرجع الرائع «عن الحرب»، «الدفاع أسهل من الهجوم في حالة تساوي القوى». وفي ذات المسار العبقري تصب مقولة ميكيافيللي «ليس من الحكمة أن تدافع عن شيء من الواجب أن تتخلى عنه».

ترتبط الاستراتيجية والتكتيك برباط غير منفصم، فكلاهما يستخدم أدوات معينة في مديين زماني ومكاني محددين لتحقيق أهداف بعينها. ولكن الاستراتيجية تهدف إلى تحقيق الأهداف الأعلى والأسمى، في حين يهتم التكتيك بتحقيق الأهداف المرحلية القصيرة الأجل، وعملية خلق الاستراتيجية يطلق عليها التخطيط الاستراتيجي. بمعنى آخر تمثل الاستراتيجية الهدف النهائي أو الخطة الكبرى، سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً، أما التكتيك فهو عبارة عن الإجراءات التي يتم عبرها الوصول إلى أهداف قصيرة ومتوسطة الأجل. ويفرق كلاوزه فيتز بين التكتيك والاستراتيجية على النحو التالي «التكتيك هو فن استعمال القوة العسكرية في المعارك، أما الاستراتيجية فهي فن استغلال المعارك لأجل غرض الحرب الأعلى». ولذلك تحدد الاستراتيجية الوقت والزمان والوسائل والأهداف، في حين لا يناقش التكتيك أيا من هذه الخطوط العريضة التي يعدها الاستراتيجيون، بل يبدأ منها. يشبه التكتيك التضحية بالبيادق في لعبة البشر الذهنية الأرقى الشطرنج، كما يشبه «الفاول التكتيكي» في لعبة كرة القدم، باختصار يمكنك أن تقوم بتكتيكات من دون أن يكون عندك استراتيجية. ولكن غياب الاستراتيجية يمنع ترجمة النجاحات الوقتية التكتيكية إلى تحقيق أهداف مخطط لها سلفاً، فلا تلبث النجاحات الصغيرة أن تذهب أدراج الرياح. وبتطبيق تلك المقولات الانطلاقية على منطقتنا، نجد أن اختلاط مفاهيم ووظائف «التكتيك» و«الاستراتيجية» يؤديان - في أحيان كثيرة للأسف- إلى هدر الكثير من الطاقات المتوافرة وغياب العديد من النجاحات الممكنة، فما أكثر العِبَر وأقل الاعتبار.

* كاتب وباحث مصري

back to top