حديقة الإنسان: شيطاننا الأوغندي!

نشر في 11-01-2008
آخر تحديث 11-01-2008 | 00:00
 أحمد مطر من بين أبرز الطغاة الذين التقاهم الصحفي الإيطالي ريكاردو أوريزيو، ونشر وقائع لقاءاته معهم في كتابه المميز «حديث الشيطان» يبدو شيطاننا الأوغندي «عيدي أمين» نسيجاً وحده شكلاً ومضموناً، ذلك أنّ هذا المخلوق العجيب الذي اشتركت ليبيا والسعودية في تخليصه من مصيره المحتوم، قد كان مرعباً ومضحكاً في الوقت نفسه، مما جعله تجسيداً حياً للقول المأثور عن «شرّ البليّة»، ولعلّ أكبر ما في هذا البلاء من شرّ هو أنّه أبى، كغيره من شياطين هذا الزمان، إلاّ أن يتلفّع بعباءة إسلامنا العظيم، ليدنّسها بأفعال يكاد يبرأ منها الشيطان الرجيم نفسه.

كان هذا الرجل ملاكماً، خاض النزالات في الحلبة قبل وبعد توليه الرئاسة. فعقب إطاحته «ميلتون أوبوتي» بانقلاب عسكري، اختار نفسه بنفسه للمنتخب الأولمبي الأوغندي، وخاض عدّة نزالات مع عدد من المتبارين الذين هزموا جميعاً شرّ هزيمة! وبالرغم من أنه كان مجرد عريف طبّاخ، فقد رقّى نفسه بعد الانقلاب لرتبة «جنرال» وأعلن أنه «الرئيس الوحيد الذي على اتصال مباشر مع الله»!

ومن مظاهر عبقريّته أنّه كان يطرد وزراءه ويُطلّق زوجاته أيضاً، عبر خطابات مُتلفزة!

وعندما شكا أحد وزراء المالية من أنّ خزائن الحكومة فارغة، انفجر أمين غاضباً: إذا لم يكن لدينا مال فالحلّ سهل جداً: يتعيّن عليكم أن تطبعوا نقوداً جديدة!

فانحنى الوزير وغادر الغرفة، ثم فرّ إلى لندن، وبذلك أنقذ جلده.

وعندما اتّهم بالفساد لم يُنكر ذلك، بل أجاب: إن إدارة دولة تشبه إدارة عمل تجاري ضخم، إذ يتعيّن عليك أن تمنح نفسك راتباً لائقاً!

أمّا شغفه بالدبلوماسية الدوليّة فقد عبّر عنه بحديث إلى راديو كمبالا، حيث قال: ليس هنري كيسنجر، على ما يبدو، رجلاً بالغ الذكاء، إذ إنّه لا يأتي أبداً إلى كمبالا لكي يستشيرني في ما يخص القضايا الدولية!

وأما أطرف وصلاته الفكاهيّة فقد كانت عندما زار لندن فجأة في عام 1971، من دون إبلاغ السلطات البريطانية، وعندما دُعي إلى مائدة الغداء مع الملكة في اليوم التالي، كما ينصّ البروتوكول، سألته الملكة بتهذيب عن سبب زيارته المفاجئة، فقال من دون تردّد إنه جاء للتسوق... «ففي أوغندا، يا صاحبة الجلالة، يصعب العثور على زوج من الأحذية من مقاس أربعين»!

ويبدو أنّ هناك من أفهمه أن زيارات الدولة تتطلّب أخذ العلم مسبقاً. لذلك فقد أذاع راديو كمبالا في عام 1975 أنّ قصر باكنغهام تلقّى الرسالة التالية من عيدي أمين:

«عزيزتي الملكة... أنوي الوصول إلى لندن في زيارة رسمية في الرابع من أغسطس هذا العام، وإنني أكتب في هذا الوقت لتقومي بجميع التحضيرات اللازمة لإقامتي، بحيث لا يُلغى أي شيء مهم. أنا مهتم بالطعام بوجه خاص، لأنني أعلم أنكم تعانون أزمة اقتصادية. كما أودّ أن ترتبي لي زيارة إلى أسكتلندا وإيرلندا وويلز، كي ألتقي بزعماء الحركات الثورية الذين يناضلون ضد قمعك الإمبريالي»!

وحين لم يكن في زيارات رسمية، كان أمين يتسلّى بكتابة البرقيات، وقد دخل كثير من برقياته حوليات التاريخ الدبلوماسي.

كتب إلى ريتشارد نيكسون في أثناء أزمة ووترغيت: «إن كانت بلادك لا تفهمك، تعال إلى بابا أمين الذي يحبّك. أقبّلك على خدّيك» وقد ذيّل البرقيّة بالنصيحة التالية: «عندما يكون استقرار الأمة في خطر فإنّ الحل الوحيد هو أن تسجن قادة المعارضة»!

وإلى الحكومة الإسرائيلية خلال حرب رمضان: «آمركم بالاستسلام»!

وإلى الأمين العام لرابطة دول الكومنولث البريطانية: «نظراً لنجاح الثورة الاقتصادية في أوغندا، أؤكد لكم أنّني المرشح المثالي لقيادة الكومنولث بدل بريطانيا التي تعاني أزمة اقتصادية خطيرة»!

وإلى الحكومة التركية عقب غزو قبرص مباشرة: «أطلب رؤية خططكم العسكرية وفيلماً عن عملية الإنزال، لأنها ستكون ذات فائدة يوم يهاجم جيشي جنوب أفريقيا»!

وإلى كورت فالدهايم أمين عام الأمم المتحدة... وضابط الحرب السابق: «أعبّر عن دعمي لشخصية أدولف هتلر التاريخية، الذي شنّ الحرب بغية توحيد أوروبا، وكانت غلطته الوحيدة أنّه خسرها»!

وقبل أن ترسل تلك البرقيّة ببضع ساعات، أذاع راديو كمبالا بياناً للرئيس عيدي أمين يعلن فيه أنّه على وشك بناء تمثال لهتلر!

ألا تذكّرنا تلك العبقريات بأمور ما لعباقرة ما، لايزالون يصعدون فوق جماجمنا، لبناء التماثيل لأمثاله؟!

بعد سقوط هذا العبقري مباشرة اكتشفت رؤوس خصومه المقطوعة محفوظة في ثلاجات مقر الرئاسة! كما اكتشف مقتل ما لا يقل عن ثلاثين ألف إنسان خلال فترة حكمه التي استغرقت تسعة أعوام تقريباً.

وماذا كانت عقوبة ذلك الجزّار المجنون؟ لقد كانت: لقب «حاج» وراتباً متصلاً لرحلة حجّ مديدة، بدأت بسقوطه من قيد الحكم، وانتهت بسقوطه من قيد الأحياء.

كان أوريزيو قد سأل عيدي أمين على الهاتف:

- هل تشعر بالندم؟

فأجاب: كلا... أشعر بالحنين فقط.

- إلامَ؟

- إلى الوقت الذي كنت فيه ضابط صف أقاتل ضد الماو ماو في كينيا... كنت قويا مثل ثور... كنت جندياً جيداً في الجيش البريطاني. ولدت في عائلة شديدة الفقر، ولذلك تطوّعت هرباً من الجوع.

إن هذا الحنين المفرط الذي يبدو غريباً انبعاثه من نفس مقفرة من المشاعر الإنسانية، يعيد إلى أذهاننا المثل الشعبي المشهور «تموت الدّجاجة... وعينها على المزبلة»، إذ يبدو أن شعوره بالجوع، بعد السقوط المخزي، قد أنساه كل ما يتعلق بكرسي الرئاسة ورتبة الجنرال، ولم يبق في ذهنه سوى شيء واحد: هو مطمح العودة إلى رتبة العريف الطبّاخ!

* شاعر عراقي

back to top