بؤس الشعر

نشر في 16-08-2007
آخر تحديث 16-08-2007 | 00:00
 محمد سليمان

الشكوى غير المتوقعة للشعراء الهولنديين جعلتنا ندرك أن الشعراء في بلادنا أفضل حالاً، على الأقل لم يطالبنا الناشرون حتى الآن بابتكار حيل وألاعيب تعينهم على بيع دواويننا، وهي ممارسات تحرم الشعراء من ترسيخ أساليبهم وتجاربهم الشعرية، فضلا عن تحويلها الشعر إلى سلعة، وهو البؤس بعينه.

الشعر كان ومازال فناً صعباً ونخبوياً وبحاجة إلى قارئ واع ومثقف، جمهور الشعر كان دائما محدوداً، ولايزال، والشعراء الكبار الذين نحبهم ونزهو بهم كالمتنبي وأبي تمام وأبي العلاء المعري أُجبروا على المديح ومسايرة الأثرياء والخلفاء والحكام، أو على الزهد والحياة على حافة الجوع... أبو تمام تحمل مشقة السفر إلى مصر ليمدح واليها «الخصيب» ويفوز بعطائه، ثم عمل سقاءً في مسجد بعد أن تجاهله الوالي ولم يمنحه شيئاً، وكلنا يعرف أسفار المتنبي ومعاناته.

هؤلاء الكبار لم يكونوا أعلاماً مشهورين ومعروفين في زمنهم أو قادرين على الحياة اعتماداً على الإبداع والكتابة، لكنهم اخترقوا الأزمنة بشعرهم، وأنصفهم التراكم النقدي والإعلامي وجعل منهم نجوماً لشعرنا.

بسبب نخبوية قراء الشعر لم نسمع حتى الآن عن شاعر عالمي واحد باع أحد دواوينه مليون نسخة أو أكثر في مقابل الروائيين العالميين الذين تجاوزت مبيعات رواياتهم أضعاف هذا الرقم. لذلك ظل الشاعر في عصرنا عاجزاً، كجده، عن الحياة اعتماداً على إبداعه، وصار عليه لكي يكسب قوت يومه أن يعمل في مجالات الصحافة والتدريس والطب والصيدلة والهندسة وغيرها. وقد كان لدينا شاعر يعمل جزاراً (قصابا) في النصف الأول من القرن الماضي أجبرته الظروف على ترك الأدب والشعر والانشغال بمهنة الجزار... وقد سجل ذلك شعرياً عندما قال:

كيف لا أمدح الجزارة

ما عشت وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجّيني

وبالشعر كنت أرجو الكلابا

انحسار قراء الشعر ظاهرة عالمية يشكو منها الشعراء في كل مكان ويتبادلون الاتهامات. فكل تيار شعري يتهم التيارات الأخرى بقتل الشعر وإقصاء قرائه. فشعراء «الكلمة المنطوقة» في أميركا يتهمون أكاديمية الشعر في نيويورك باعتبارها المؤسسة الرسمية المانحة للجوائز، ويقررون النزول إلى الشارع بقصائدهم لإحياء الشعر ويحتفون بـ«الكلمة المنطوقة» و«الكلمة الصوت» وينظمون القراءات الشعرية في المقاهي والمكتبات. وقد رأيت ذلك في مدينة أيوا عام 1995، وهناك، كما سجل أحمد مرسي في كتابه (الشعر الأميركي المعاصر)، شعر في الباصات وعربات قطار الأنفاق في مدينة نيويورك يُكتب على لوحات تحت رعاية جمعية «أميركاللشعر» وقد وزعت نسخاً مجانية من الدواوين على مئات الفنادق والنزل والكنائس في شتى أنحاء أميركا.

بسبب انحسار قراء الشعر ظهرت «تقاليع» وموضات لا حصر لها هدفها شد القارئ وإثارة فضوله، ومن ثم جلب قراء جدد للشعر، وهي غالبا تُفرض على الشاعر وحده. وآلمتني كثيراً شكوى بعض الشعراء الهولنديين عام 1994 عندما زرت أمستردام مشاركاً في مهرجان «الشعر العربي الهولندي»، فبعد القراءات الشعرية، عقدت ندوة عن الإبداع والحرية وبعد أن تحدث عباس بيضون الشاعر اللبناني ومحمد بنيس الشاعر المغربي وكاتب هذه السطور عن القمع السياسي ومعاناتنا في العالم العربي. فوجئنا بالشعراء الهولنديين يتحدثون عن قمع أشد وأقسى يعانونه، وهو «قمع الناشر»، الذي يجبر الشاعر على ابتكار بعض «الحيل والأساليب والصرعات» التي تعين على بيع الديوان وتسويقه. وهي ما تحرم الشعراء من ترسيخ أساليبهم وتجاربهم الشعرية، فضلا عن تحويلها الشعر إلى سلعة، وهو البؤس بعينه.

جعلتنا هذه الشكوى، غير المتوقعة، ندرك أن الشعراء في بلادنا أفضل حالاً، على الأقل لم يطالبنا الناشرون حتى الآن، بابتكار حيل وألاعيب تعينهم على بيع دواويننا، وظلوا كرماء معنا إلى أبعد مدى، لاسيما دور النشر القومية التي «تغربل» القصائد دوماً باحثة عن تمرد هنا، أو انتهاك هناك لمحرمات ومقدسات من وجهة نظرها، كي تعتذر من النشر أو إرجائه إلى الأبد، فيما يسعدها دائماً نشر قصائدنا «الجميلة» و«الوديعة»، التي أيضا لا تستوقف أحداً، وكما أقول في قصيدة لي:

لست رديئا جدا

أكذب نصف اليوم فقط

وأجاري نصف اليوم

وفي الأعياد أحيي ر جل الشرطة

كي يتركني ألهو..........

وأسافر في الأحلام إلى شيكاغو

أو سور الصين وأكتب حين أريد قصائد لا تستوقف أحدا.

*كاتب وشاعر مصري

back to top