الجغرافيا مدخل لهوية تركيا الجديدة
تبدو الجغرافيا التركية مثل شريحة أفقية هبطت من السماء وسط المياه بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، والموقع الجغرافي التركي يمثل الشريحة الشمالية للشرق الأوسط، ويتماس مع الحدود الشمالية لكل من سورية والعراق، والحدود الشمالية الغربية لإيران، في تمازج استثنائي بين حضور المياه واليابسة في تشكيل الشخصية الجغرافية لتركيا.يستطيع أي فرد منا أن يختار ملابسه ونوع طعامه وحتى محل سكنه لو توافرت الإرادة والإمكانات المالية، ولكنه لا يستطيع اختيار أبويه في أي حال، والدول مثلها مثل الأفراد في تفاوت وتراوح قدراتها المالية والبشرية والعسكرية تستطيع اختيار طرق تنمية اقتصادية وعقد تحالفات سياسية إقليمية ودولية؛ ولكنها تعجز عن شيء واحد هو الانتقال إلى أبوين جديدين أو الانتقال إلى جغرافيا أخرى!، ولذلك تبقى الجغرافيا فوق إرادة الدول والمجتمعات، ولهذا السبب بالتحديد ظهرت المقولة الشهيرة «الجغرافيا هي قدر الأمم» للدلالة على حضور الجغرافيا في حياة الأمم والشعوب. وانطلاقاً من هذه المكانة السامقة والمحددة للجغرافيا في صنع المصائر يبدو أن الجغرافيا التركية قد تعود لتشكل من جديد أقدار وأوزان الدول في الشرق الأوسط الذي يشهد إعادة توزيع لأثقاله وترتيب لأوضاعه، خصوصاً أن تركيا تتاخم كلا من سورية والعراق حالياً، وهما اللذان كانا جزءاً من الدولة العثمانية قبل استقلالهما في عشرينيات القرن الماضي.يؤثر الموقع الجغرافي التركي تأثيراً طاغياً في الدوائر الإستراتيجية العليا وعلى صناع القرار في تركيا، إذ لتركيا موقع يمكن وصفه في العلوم الإستراتيجية بأنه Eckmacht، وهي كلمة ألمانية الأصل تعني «قوة زاوية»، أي قوة إقليمية ذات موقع إستراتيجي معتبر، وتتحكم جغرافية تركيا العبقرية في الممرات البحرية في البوسفور والدردنيل، أي الممرات البحرية الموصلة بين قارتي آسيا وأوروبا، بالإضافة إلى إطلالتها الممتازة على البحر الأسود والامتداد الواسع لشواطئها الجنوبية على البحر المتوسط، ويمكن أيضاً النظر إلى الخريطة التركية كشريحة أفقية، وضعتها الجغرافيا باقتدار، بين القارات الثلاث (أوروبا وآسيا وعلى مشارف إفريقيا)، إذ لا يفصلها عنها سوى مياه البحر الأبيض المتوسط. وموقع تركيا الجغرافي متعدد المواهب، فهي تطل باقتدار على منطقة البلقان، كما يضع موقعها الجغرافي منطقة بحر قزوين بامتياز تحت السيطرة الجغرافية، كما أن جغرافيتها تحبس روسيا عند حدود البحر الأسود، بعد أن تمنع عن بلاد القياصرة مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة. تبدو الجغرافيا التركية مثل شريحة أفقية هبطت من السماء وسط المياه بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، والموقع الجغرافي التركي بالإضافة إلى كل ذلك يمثل الشريحة الشمالية للشرق الأوسط، ويتماس مع الحدود الشمالية لكل من سورية والعراق، والحدود الشمالية الغربية لإيران، في تمازج استثنائي بين حضور المياه واليابسة في تشكيل الشخصية الجغرافية لتركيا، ولكل ذلك لعب الموقع الجغرافي الدور الأكبر في دخول تركيا إلى حلف الناتو؛ فشكلت جبهته الجنوبية الشرقية، واستطاع الحلف عن طريق موقعها الجغرافي الضغط على الاتحاد السوفييتي السابق -ومن بعده روسيا- وموازنة نفوذه في القوقاز، وبالإضافة إلى العوامل الجغرافية العبقرية خص التاريخ تركيا بروابط مع دول جوارها في البلقان والشرق الأوسط والقوقاز، مما يضفي أهمية مضاعفة على مميزاتها الجيو- إستراتيجية التي تستطيع التأثير في جيو-سياسية الدول المجاورة. تنبني السياسات الإقليمية للدول على عدة ركائز معروفة مثل: التحالفات الدولية والموقع الجغرافي والإمكانات البشرية والاقتصادية، ولا تقتصر على ذلك فقط، إذ تلعب الروابط التاريخية دورها في رسم سياسات الدول، ربما تعتبر «مسألة الهوية» أي مدركات الدولة لنفسها في مواجهة محيطها الجغرافي؛ من أهم العوامل في رسم السياسة الإقليمية للدول، صحيح أن مسألة الهوية لا يمكن حسابها بالطرق الاعتيادية المتبعة في قياس قوة الاقتصاد ومدى ارتباطه بالاقتصاد العالمي أو نسبة الصادرات إلى الواردات وغير ذلك من المعايير الثابتة، كما لا يمكن حساب الهوية بالطرق الإحصائية التقليدية المعتمدة عند إجراء الإحصاءات السكانية، إذ إن الهوية في أحد وجوهها هي مجموعة القيم السائدة لدى النظام السياسي ونخبته الحاكمة، باختصار «مسألة الهوية» هي التي تلخص التوجه الأيديولوجي لتيار سياسي ما في رؤيته للجغرافيا، ومن الطبيعي أن تختلف مدركات هذه الهوية من حزب إلى آخر ومن فصيل سياسي إلى غيره من الفصائل، وهذا الاختلاف يقود إلى اعتماد البرنامج السياسي للأحزاب الحاكمة على رؤى بعينها في القضايا المختلفة ومنها طبعاً السياسات الداخلية والإقليمية والخارجية. يبلغ هذا التحليل ذروة كفايته التفسيرية عندما ينظر المرء إلى الواقع الجغرافي لتركيا ومقارنته بسياساتها الإقليمية منذ قيام «الجمهورية التركية» في عام 1923، فتركيا الواقعة بنسبة تطاول 97.5 في المئة من جغرافيتها في آسيا توجهت دوماً بسياساتها نحو أوروبا، وبشكل ذهب علماً على السياسة التركية، ومع ضرورات السياسة الدولية الراهنة ومقتضيات المصالح الوطنية التركية تبدو أنقرة اليوم وهي تعود من جديد لتأخذ في الاعتبار مؤشرات حاكمة أغفلتها إلى حد كبير حتى الآن، ومن أهم هذه المؤشرات: الجغرافيا باعتبارها قدر الأمم.* كاتب وباحث مصري