الأبنودي يتذكّر ويروي حكايات البدايات 16: شممت رائحة طفولة شعرية حين سمعت قصائدي التي نسيتها

نشر في 01-10-2007 | 00:00
آخر تحديث 01-10-2007 | 00:00

هذه الحلقات ليست ثمرة حوار ممتد عبر عدة جلسات مع صديقي الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، بل ثمرة حوارات طويلة، معظمها عفوي، كان خلالها «يبوح» وكنت «أحفظ». حوارات عفوية تطرق فيها إلى تفاصيل كثيرة ورسم معظم الملامح الأساسية في لوحة حياته فلما جاء وقت الحوارات المقصودة لم يكن علينا أن نبدأ البناء من أوله بل أن نستكمل بعض التفاصيل أو نضع لمسة هنا ولمسة هناك. ولا تحسبوها مهمة سهلة، إذ استدعى الأمر جلسات عديدة وساعات طويلة اقتنصتها من جدول الأبنودي المزدحم بين سفر وسفر، من شاطئ الخليج العربي إلى تونس ومن احتفالية فنية في قرطاج إلى مولد «سيدي عبد الرحيم» الشعبي في قنا، حتى أمكن في النهاية أن أجمع هذه الباقة من «حكايات البدايات» الأبنودية.

في البداية لم يبد الأبنودي متحمساً لموضوع الحوارات. قال: لم لا نحدد موضوعا أهم من «البدايات» للحوار حوله؟ قلت: وهل هناك أهم من البدايات؟ إن حياتك عبارة عن سلسلة متواصلة من البدايات، كأنك تولد كل يوم مرة أخرى، أول يوم في الحياة، أول يوم علم، أول يوم عمل، أول حب، أول وظيفة، أول قصيدة، أول أغنية، أول نجاح، أول إخفاق، أول ديوان، أول جائزة، أول سفر، أول لقاء مع عبد الحليم حافظ وغيره من «مجرة» النجوم التي عشت واحدا منها.

وافق الأبنودي على إجراء حوارات «استكمال أجزاء الصورة». وافق ربما لأننا صديقان، وربما من باب أن «الحياة تجارب»، أو لأي سبب آخر. المهم أنه وافق، مع احتفاظه بموقفه غير المتحمس. لكن «الحماسة» لم تتأخر كثيرا فمع أول سؤال وأول إجابة كان يتدفق كالشلال، كالنيل الذي كان يفيض هناك في أبنود قبل أن يكون هناك سد عالٍ. وليس عجيبا أن الأبنودي يذكر أيام الفيضان هذه بكل الود ويضعها في الموضع الذي يليق بها من تاريخ مصر. وفي الوقت نفسه يعتبر السد العالي «مشروعه» الذي يفاخر به فهو القارئ لتاريخ مصر ـ المكتوب وغير المكتوب ـ بعين محبة وقلب رؤوم والقادر على اكتشاف ما كان في كل حقبة من «فضيلة».

مع السؤال الأول والإجابة الأولى كان الأبنودي يتدفق حماسة واكتشف واكتشفت معه كم كانت مبهجة تلك البدايات التي راح يقص حكاياتها.

يقول الأبنودي: «حين بدأت أكتب أشعاري العامية لم أكن أعتقد أن هناك من سبقني إلى هذه «اللعبة» الجديدة. بلى، استمعت إلى أغاني صلاح جاهين في الراديو خلال المعركة، لكنها كانت أغاني موزونة مقفاة ولم أكن أعرف أن له دواوين ولا أن فؤاد حداد سبقنا جميعاً. من هنا جاء تفرد أشعاري بلغتها وعالمها ومنذ تلك الفترة سلكت هذا السبيل منفرداً حتى بعدما تعرفت الى بقية رفاقي من الشعراء. عرفت دائماً أن الفلاحين زودوني بحصيلة من إبداعاتهم ورؤاهم وأنماط حياتهم وطرائق تفكيرهم بما لا يوجد في كتب ولا عند شعراء سبقوني».

يعبّر الأبنودي هنا عن عصامية تسكن روحه قبل أن تصبغ بشرته وتطبع حياته بطابعها، عصامية الإنسان التي لم تفارق الشاعر، ذلك الإنسان الذي تابعناه منذ طفولته يبتكر حياته ويصوغ أدواتها، الإنسان الذي اعتاد أن يكتسب معارفه وفق منهج «التجربة والخطأ» وأعتقد أن هذا المنهج سر «البدايات المتعددة» في مسيرة الأبنودي الشعرية وسبب رفضه القوالب الجاهزة في حياته عامة، إذ لا يقبل، ببساطة، إلا ما يصنع بيديه.

يضيف الأبنودي: «كان والدي الشيخ الأبنودي شاعراً وله شعر منشور وكان أخي الأكبر الشيخ جلال المتخرج من كلية اللغة العربية في الأزهر شاعراً. كلاهما كان يكتب الشعر الفصيح الموزون المقفى وكان جو البيت، فضلاً عما كنا ندرس في المدارس، يقودني إلى الطريق الذي سلكاه».

لكن الأبنودي لم يسر حيثما سارا. لم «يضع قدمه في حذاء أبيه» ولم يعش في جلبابه. كما لم يذهب إلى السائد والشائع، بل اختار أن يتحمل عبء التجربة وحلم الوصول بها إلى إنجاز. لا تكاد تستقر عنده حتى يدهشك الأبنودي بروح المبدع القلق المتطلع إلى القفز إلى بداية أخرى وإنجاز جديد؛ لذا نراه حريصا على تجديد قوالبه وأشكاله الفنية، رافضا تكرار التجربة نفسها.

يوضح الأبنودي: «لا يوجد ديوان لي لم أحقق فيه ثورة على نفسي إن في الشكل أو في المضمون. أشعر بأنه كان ممكناً في رحلتي إنجاز أضعاف ما أنجزت فيها. ابتدعت أنماطاً للقصيدة لم تعرف من قبل ولم ينجح الآخرون بعدي في تطبيقها مثل الديوان الرسائل «جوابات حراجي القط» وهو تجربة أولى في القصيدة العربية وعبارة عن سلسلة من الرسائل ترتبط بموضوع واحد. هناك أيضا «بعد التحية والسلام»، رسائل في موضوعات مختلفة والديوان الرواية «أحمد سماعين» وديوان التجربة الواحدة، المختلفة في كل مرة، بين «وجوه على الشط» و«الموت على الأسفلت» و«الاستعمار العربي» وهي أعمال ما كانت لتتحقق لو أنني قصدت إليها».

الأستاذ توفيق حنا

يتذكر الأبنودي بداية أخرى من بداياته حظيت بوجود من يشجعها ويرعاها وهي «نعمة كبرى» لم تتكرر كثيراً في رحلة حياته التي يصفها بأنها «وعرة»، يقول الأبنودي: «عام 1957، جاء إلينا في «مدرسة قنا الثانوية» رجل فاضل لتعليمنا اللغة الفرنسية هو الناقد وعاشق القرية المصرية الأستاذ توفيق حنا، ولعب في حياتنا دورا لا يمكن إغفاله. كان «الأستاذ توفيق» قادما من القاهرة، لكنه لم يتذمر حين وجد نفسه بيننا ولم يعتبر بلدنا «منفى». أقام، بعوده النحيل وأدبه الجم، في «لوكاندة الجبلاوي». لم نستقبله في المدرسة بحماسة، بل أذكر أنني سألته في المرة الأولى التي دخل فيها فصلنا: هل جئت لتدريس الرياضة البدنية «الألعاب»؟ في إشارة ساخرة إلى نحافته. كان رده الحاسم أن طالبني بالخروج فوراً من الفصل للاستمتاع بجمال فناء المدرسة!

لم نكن نعرف قدر الرجل ولم نطلع، نحن غير المتحمسين لدراسة اللغات إنكليزية أو فرنسية، على ثقافته الرفيعة وفكره الراقي ولم نعرف أنه صديق لكل الأسماء التي كانت تبدو بالنسبة إلينا أقرب إلى الأساطير: نجيب محفوظ، عبد الحميد يونس، يحيى حقي، أحمد رشدي صالح، إلى أن كانت حفلة عيد الأم التي أقامتها مدرستنا وكانت مناسبة لننشد قصائدنا، للمرة الأولى، أمام جمهور أوسع من ثلتنا المحدودة. كان على مصطفى الضمراني أن يبدأ الإلقاء بعد افتتاح الحفل. يومذاك وقف متوترا يلقي قصيدة من ذلك النوع الذي يبدأ بـ «أقبل الصبح» و«غرد الطير». وتلاه أمل دنقل بزهوه كأنه فرع رمان أو أحد شعراء «سوق عكاظ». استحق أمل تصفيقا طويلا من الحضور بقصيدته التي كانت عن الوطن باعتباره الأم الحقيقية تناول فيها زاوية كانت جديدة في ذلك الوقت».

يضيف الأبنودي: كنا سلمنا نسخا من قصائدنا قبل إلقائها إلى المشرف على الحفل وحين جاء دوري أخرجت من جيبي ورقة أخرى فيها قصيدة مختلفة عن تلك التي سبق أن سلمتها من نوع الشعر الساخر الذي يمزج بين العامية والفصحى ويتعمّد تجاوز قواعدها. ذاك ما نسميه «الشعر الحلمنتيشي». وبدأت الإلقاء بالمطلع:

أهدي إليك تحية (بنشاطا)

يا من بها فرح الفؤاد و(زاطا)

انفجر الجميع في موجة ضحك راحت تشتد مع مواصلة إلقاء أبيات القصيدة:

أعلنت حربك (ع الطبيخ) هزمته

وغدا الحديد بساعديك بطاطا

مزقتِ ثوب الخبز حتى لم يعد

يقوى على إصلحه (خياطا)

صفق الحضور طويلا تصفيقا مدويا أشعرني بالزهو وملأني بلذة النجاح. بينما أنا أستمتع بما حققت وجدت الأستاذ توفيق حنا يهمس في أذني معترضا: أنت إنسان موهوب فعلا، فلِمَ تفعل هذا بموهبتك؟

كان التساؤل بداية فصل من التعنيف لم يتخلّ فيه الأستاذ توفيق عن رقته وأشار خلاله إلى الفقراء الذين أنتمي إليهم، إلى ناس أبنود، مؤكداً أنهم يجب أن يكونوا مادتي الأساسية وأبطال قصائدي. وأسدى الأستاذ توفيق حنا النصيحة نفسها إلى بقية رفاق الصبا. هكذا راح أبو الوفا القاضي يكتب ملحمة شعبية وانشغل محمد سلامة آدم بالبحث عن الأمثال الشعبية. أما أنا ففكرت للمرة الأولى في جمع تلك الأغاني التي حفظتها ورددتها في الطفولة، في مواسم الحصاد ونهارات الرعي، أغاني العمل في الحقول والبيادر وأغاني اللعب في الليالي المقمرة وفي تدوينها.

أصبح الأستاذ توفيق حنا واحداً منا. توطدت صداقتي به واكتشفت أن صداقة مماثلة تربطه بأمل دنقل. كان يستمع في لقاءاتنا الخاصة إلى قصائدنا الحقيقية التي كنا نكتبها في السر ولا نقرأها إلا لبعضنا البعض. لم تنقطع صلتنا به حتى عندما نقل إلى «جزيرة شندويل» في سوهاج، ثم إلى القاهرة، التي دعاني إليها أنا وأمل لنشارك للمرة الأولى في حياتنا في ندوة شعرية.

الندوة الأولى

يصف الشاعر الإسباني الكبير لوركا الشعر بأنه «كائن حي يموت ويحيا مع الناقل». ويعرف جمهور الأبنودي أن الاستماع إليه ملقياً قصائده في الندوات يفتح أفقا للتلقي أرحب بكثير مما تتيحه القراءة. لندوات الأبنودي بهجة، وللندوة الأولى في حياته حكاية يرويها: «حين عاد الأستاذ توفيق حنا إلى القاهرة أرسل إليّ وأمل يسألنا إن كنا على استعداد للمشاركة في ندوة شعرية تحت رعاية «مركز الفنون الشعبية» وكان حديث النشأة في ذلك الوقت. رددنا عليه بالموافقة. في الموعد المحدّد سافرت وأمل دنقل قاصدين مقر «رابطة الأدب الحديث» في 7 شارع بنك مصر في القاهرة للمشاركة في الندوة التي حضرها لفيف من الأدباء والشعراء والصحافيين. استمع إلينا الجميع وأضفوا علينا على الفور صفة شاعرين واصطحبونا بعد الندوة لتناول العشاء في حفاوة كبيرة وتقدير حقيقي وإحساس صادق بالود والإعجاب».

تفاصيل تلك الليلة يتذكرها الأبنودي: «في الندوة قرأت قصيدتي «الأرض والعيال» و«الليل والمنجل والمحرات»، وقرأ أمل دنقل قصيدة «أوجيني» وبعض قصائده العاطفية. الغريب أننا لم نشعر بأي رهبة أو خوف، مع أننا كنا نلقي شعرا للمرّة الأولى في القاهرة وكان الحضور في الندوة مجموعة من كبار المثقفين: د. محمد مندور، عبد الفتاح الجمل، جيلي عبد الرحمن، فاروق منيب، محمد حافظ رجب، عز الدين نجيب، سيد خميس الذي رافقني بعد ذلك في رحلتي الشعريّة إلى أن رحل رحمه الله، إلى شخصيّات أخرى غيّبتها السجون قبل أن يتاح لي معرفة أصحابها!

كنت واثقا من أن شعري لا يشبه شعرا آخر، لا يقلد أحدا. همس أمل دنقل في أذني قائلا: «عرفت طريقك باكراً أكثر مني فأنا ما زلت أبحث عن بداياتي». قال ذلك رغم جمال الشعر الذي كان يكتبه في تلك الفترة وألقه. أظنه كان يبحث عن قصائد مثل: الكعكة الحجرية، لا تصالح، مقتل القمر وغيرها، لكنه كان متعاليا وواثقا مما يبدعه. كان شعره مكتملاً وكانت مسألة طموحه الإبداعي تخصه وحده ولا علاقة لها بالآخرين.

حققنا في الندوة ما تصوّر الأستاذ توفيق حنا من نجاح. لم نندهش إذ كنا واثقين، أو لنقل لم نكن في انتظار شهادة من أحد!

يتذكر الأبنودي: «حين عدت إلى القاهرة، بعد تلك الليلة العابرة، لتمضية فترة التجنيد الإجباري في القوات المسلحة، ذهبت إلى «رابطة الأدب الحديث» وسألت عن هؤلاء الذين أحاطونا بالحفاوة والحب فعرفت أنهم رهن الاعتقال بتهمة الشيوعية منذ يناير/كانون الثاني 1959. هنا أصابتني دهشة لا مثيل لها!».

الكتابة علناً

يؤكد الأبنودي أن إلقاء القصيدة جزء من إبداعها. يقول: «في لحظات قراءتي للشعر بين الناس أحاول أن أبعث لحظات خلق القصيدة جزءاً جزءاً، كأنني أمارس الكتابة علناً، ليكتشف الجميع أنها ليست عملية لغز ولا تحتاج إلى مهارة بقدر ما تحتاج إلى صدق وتواصل مع الحياة والموضوع».

يشير الأبنودي إلى علاقته بالشعر وإلى الخصوصية التي تصاحب كل قصيدة منذ لحظة الإبداع وتعيش معها كلما استحضرها ليلقيها بين الناس، متسائلا:  كيف يمكن تصور أن «الخواجة لامبو» الذي مات في أسبانيا يعيش حياة «حراجي القط» أو ينطق بلغته أو يسير على إيقاع خطواته في الحياة؟ إن الإخلاص، والإخلاص فحسب، هو الذي يقودك إلى التعبير الأمثل عن التجربة، التي أصر على أنها هبة أولاً وأخيراً. إن العالم مليء بالكثير من القضايا التي تهزنا وتزلزلنا، فلِمَ لا نكتبها كلها؟ ومن الذي ينتقي ما نكتبه؟

يوحي هذا الارتباط، بل الالتصاق، بالتجربة والبساطة في التعبير عنها للبعض بالاستسهال، كأننا نصحو فنجد القصائد «تحت المخدة»، بينما أقول دائماً: «الشعر خوان، إذا خنته مرة خانك إلى الأبد» وأعرف معنى أن يبدأ صلاح جاهين قصيدة ببيت يقول «الشعر شارد في الجبل مني... عملت أنا هجان ورحت وراه».

يؤدي العبث بالشعر أو محاولة الاتجار به أو استغلاله إلى إيقاف التواصل بين الشعر والشاعر فتخرج كل تجاربه عقلانية زائفة كاذبة لا تمكث في الأرض. هؤلاء الذين يستعينون بالمخدر أثناء الكتابة، أو أي من وسائل تغييب العقل، يستهولون قصائدهم وهم ساهرون على كتابتها، إلا أنهم في النهار يكتشفون أنها أوانٍ فارغة صدئة.

يرتبط الشعر في علاقة مصيرية مع الحياة. إنه رحلة تحفها المهالك وأيّ قصيدة هي بمثابة الميلاد الجديد للشاعر، تثبت له أولاً أنه ما زال على قيد الحياة».

ورقة منسية

يكشف الأبنودي تفاصيل ورقة منسية من أوراق «حكايات البدايات»، اكتشفها بالمصادفة حين ذهب قبل بضعة أعوام لتمضية العيد في قريته أبنود. هناك جمعته جلسة بأصدقاء الطفولة. يقول: «قرأ علينا صديقي القديم حمزة أب يوسف قصائد شممت فيها رائحة طفولة شعرية وأوشكت على القول إنها تنم عن موهبة صاحبها الذي اعتقدت أنه أحد شباب أبنود. فكرت في أن أنصحه بالبحث عن صوته الخاص والتوقف عن تقليدي، لكن حمزة فاجأني بأنها قصائد قديمة لي كنت أكتبها في بداياتي الأولى في دكانه مع بداياتي الأولى عام 1956 واحتفظ بها منذ ذلك التاريخ وأعاد قراءتها بإستمرار حتى حفظها عن ظهر قلب بينما نسيتها أنا».

تكشف هذه الواقعة عدة حقائق تتعلق ببداية الأبنودي الشاعر، منها وجود بدايات تسبق القصيدة التي كتبها بعد منعه من الانخراط في المعركة عام 1956 وربما وجود دوائر أخرى لنشر قصائده الأولى غير قراءتها الخاصة مع أمل دنقل أو دائرة الرفاق زملاء الدراسة في «قنا الثانوية». تثبت الواقعة أن قصائد الأبنودي هي ملك للناس بقدر ما هي ملك له وربما أكثر فهم يحفظون منها ما تاه عنه ويذكرون ما نسيه.

يتابع الأبنودي: «يشكل الموضوع الأساس في ارتباط الناس بالقصائد فهم غير قادرين على الارتباط بأنماط شعرية خالية من المضمون، جوفاء أو لا تتصل بحياتهم اتصالاً وثيقاً وحقيقياً. ما زلت بعد هذه الرحلة الطويلة الشاقة قادراً على الادعاء بأنني لم أفقد روح الاتصال بمجموع الناس والتعبير عنهم في قضاياهم الجزئية الحياتية وأطرهم العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحلية والقومية. من هنا الاتصال الوثيق.

أعرف أن الكثير من الشعراء المحبطين يعتبرونني عائقاً يسد الطريق أمام طموحاتهم. آن لهم أن يعيدوا النظر في هذا الأمر وأن يتوقفوا عن تكرار ادعاءاتهم التي يستعينون عليها بتنظير أثبتت الأيام عدم جدواه وزيفه. لا يحقق الشاعر مكانته إلا داخل القصيدة».

تثبت القصائد التي ألقاها حمزة أب يوسف أن ديوان الأبنودي الأول والذي ضاع في حادث مأساوي لم يفقد تماما. ولكنها حكاية أخرى من «حكايات البدايات» تستحق حديثا مستقلا، فإلى الحلقة المقبلة.

أبداً ما رمت إيدي المحرات

ولا عمري باخون

ولا اخون الأرض كمان بالذات

لكن الأيام جات بسكات

وجابت لي حاجات

ولا كانش جيراني «يوسف»

لاجل ما أحلم بالسنوات

بصيت ما لقيت غير والعُليق ع العود

واللوزه بتطفح بالدود

والخيبه نايمه ف أحسن حبه ف العنقود

وزرعنا القطن

الشتويه كانت صعبه اتدفينا بيه

والدره ما جاش منه أكتر من ست سبع بوصات

النيل جا لنا الدور ده مسعور

كومنا البوص

وردمنا عليه

وعملنا جسور

وفرحنا!!

وقلنا: على الله يحبِّل بطن البور

أباي لو شفت عيون الفلاحين في الجوع

وأنين لعْيال

وضفادع هتمه بتقلق أروق بال

والجوع والليل اخوات

أباي.. لو شفت الجوع والليل اخوات!!

أبداً ما رمت إيدي المحرات..

ولا عمري باخون..

ولا اخون الأرض كمان بالذات

لكني لما دراعي اتمص.. اتمص ومات

والبقره بقت جلده وأربع عضمات

إترمى من بين إيدي المحرات

الأبنودي ـ الليل والمنجل والمحرات ـ الأرض والعيال

* * * * *

وفيه عروسه وفيه عريس في دربنا

ومصمصت ستي وقالت يا سلام

بقى ده فرح؟

الناس ما عادتشي بتستطعم فرح

الضحكه ضحكة مجانين

والواد على الدكه

ح يدخل ع العروسه

ومخه داير

لاجل يحسب في الديون

وغيرشي بكره

يجيب له كام عيل

يا عيني معصعصين

عيال قديمه مهلهله.. ومبهدله

جوه الجرون متغطيه بقش وعيدان

متغطيه بضل الحيطان

الأبنودي ـ الأرض والعيال

* * * * *

الواد منهم مليان بكلام وغنا وحواديت

أولاد تحلم.. تحلم.. تحلم

تتعتر رجليهم.. وتسير

وعينيهم تتعتر وتبص

بيغنوا الصبح..

يغنوا تعبنا.. يغنوا أنين الريف

ويغنوا كل ولد مادد إيده

ومكموش في رصيف

ويغنوا كلام زي الأحلام

عن غصن زاتون وربيع أخضر

إمبارح كنا بنمشي لا لقمه ولا همه

وفضلنا نسير ونسير ونسير ونسير لما

إتصفينا في الأوده المرميه تحت العمارات

حبة عضم

وتكويمة إحساسات

وجيوب مليانه بقشر الرحله

والحكايات

الأبنودي ـ الأولاد المتغربين ـ الأرض والعيال

back to top