أميركا وإيران وتقديرات المخابرات
الأرجح أن الهدف من أحدث تقدير لوكالة المخابرات الأميركية محمّل بدوافع سياسية أيضاً، تتمثّل في فتح النوافذ أمام تغيير الإطار الحاكم للعلاقات الأميركية-الإيرانية، وهو ما سيؤثر –في حال حدوثه- على عمارة العلاقات الجيوبوليتيكية في الشرق الأوسط.صدر قبل أيام قليلة أحدث تقدير لوكالة المخابرات الأميركية Estimate National Intelligence، ليهزّ ما استقرّ حول إيران وملفّها النووي في الولايات المتحدة الأميركية، وليقوّض الجهود التي تبذلها الإدارة الأميركية من أجل تمرير مشروع قرار جديد لمجلس الأمن يرفع سقف العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران. تضمّن التقدير فقرة عالية الأهمية نصها التالي: «بثقة عالية يمكن القول إن إيران أوقفت برنامجها للتسلّح النووي في خريف 2003 ولاتزال ملتزمة بذلك حتى الآن». ويتابع التقدير «أن السبب في إيقاف إيران لبرنامجها النووي يعود إلى الضغوط الدولية المكثّفة التي مورست عليها وأن قرار إيران بالتوقف لاحظ حسابات الأرباح والخسائر، ولم تستمر بأي ثمن سياسي واقتصادي في البرنامج». ويعود التقدير الذي جمعته 16 وكالة استخبارية أميركية ورفعت عنه السرية قبل أيام قليلة ليقرر «بثقة كبيرة يمكننا القول إن إيران لم تستأنف برنامجها النووي حتى الآن». ويعود التقدير المذكور ليتبنّى «بثقة معقولة أن إيران حقّقت تقدّماً ذا مغزى بتشغيل أجهزة الطرد المركزي بداية العام الحالي، ولكنها تواجه صعوبات تقنية كبيرة، وأنها لن تمتلك قبل عام 2010 كمية كافية من اليورانيوم لتصنيع قنبلة نووية». يدشّن تقدير وكالة المخابرات الأميركية بهدوء مرحلة جديدة في توازنات الشرق الأوسط، من دون صخب أو ضجيج، ليس بسبب أنه فنّد ادعاءات إدارة المحافظين الجدد بأن إيران سعت إلى حيازة برنامج نووي عسكري، فهذا أمر ليس بجديد ولا يؤشر إلى تغيرات استراتيجية عميقة الأثر، بل لأن التقدير أنهى عملياً فكرة تشكيل تحالف دولي لتوجيه ضربة جوية مكثفة إلى إيران. كان التحالف المذكور أحد السيناريوهات المطروحة بجدية على عواصم القرار الدولي لحل الملف النووي، نظراً لعدم توافر الأسانيد القانونية التي تبرر العمل العسكري من مؤسسات الشرعية الدولية ممثلة في مؤسسات الأمم المتحدة، ولكن استمرار الشكوك حول البرنامج النووي الإيراني وأهدافه التي غذّتها عوامل محلية أميركية وإقليمية شرق أوسطية بالترافق مع إصرار صهيوني على تحييد إيران من معادلات المنطقة، سمح لسيناريو الضربة الجوية المكثفة التي تتشارك في القيام بها عدة دول أن يتصدر الحسابات على طاولات البحث في مراكز الأبحاث الدولية. وبغياب هذا السيناريو يغيب الهدف الكامن خلفه، أي إسقاط النظام الإيراني بالقوة العسكرية، تتغير ديناميكيات المنطقة لينفتح الباب أمام احتمالات غير متوقعة تبدأ من تعاون مستقبلي بين واشنطن وطهران في العراق ولا تنتهي عنده. حاولت الإدارة الأميركية التقليل من شأن التقرير على لسان ستيفن هادلي مستشار الأمن القومي الأميركي، بقوله «يثبت أن الولايات المتحدة كانت على حق في انزعاجها من الطموحات النووية الإيرانية، وأن الرئيس بوش كان يتبنى استراتيجية سليمة. يجب على المجتمع الدولي تشديد الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية على إيران». وبالرغم من ذلك يعتبر التقدير المذكور تحولاً جذرياً عن التقدير السابق لوكالة المخابرات الأميركية الذي صدر في ربيع 2005، وفيه شكّكت هذه الوكالة بأن إيران «تحتفظ ببرنامج نووي سري، بالتوازي مع برنامجها المعلن لتخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية». ومع ملاحظة أن تقديرات المخابرات تؤشر إلى السياسات واتجاهها المرتقب، وأن السياق الجيوبوليتيكي هو السياق الأكثر شمولية في فهم المؤشرات وتحليل الظواهر السياسية، يحتاج التحليل السياسي لفهم التقدير الجديد والهام إلى الإجابة عن سؤال أساسي، السؤال المفتاح هو: هل يمثّل التحوّل الكبير في تقدير وكالة المخابرات الأميركية اعترافاً بالفشل المخابراتي الأميركي أم يعدّ تغييراً في التوجّه السياسي الأميركي؟ أم كلاهما معاً؟ الإجابة التي تبدو أقرب إلى الدقّة الآن هي أن التقديرات المخابراتية الأميركية السابقة كانت مصوغة بغموض، حيث احتملت تأويلات متعددة، وأنها صيغت بدوافع سياسية واضحة وليست استناداً إلى معلومات بحتة وتحليلات باردة. أما الاستنتاج الذي يُبنى على هذه الإجابة فهو أن واشنطن الغارقة في ورطتها العراقية التي خاضت جولات من المباحثات مع إيران بشأنها في العامين الماضيين، سوف تكثّف من محادثاتها مع إيران حول العراق من دون أن تتّهم بأنها تفاوض إيران، في الوقت الذي تخصب فيه إيران اليورانيوم للأغراض العسكرية. الأرجح أن الهدف من أحدث تقدير لوكالة المخابرات الأميركية محمّل بدوافع سياسية أيضاً، تتمثّل في فتح النوافذ أمام تغيير الإطار الحاكم للعلاقات الأميركية-الإيرانية، وهو ما سيؤثر –في حال حدوثه- على عمارة العلاقات الجيوبوليتيكية في الشرق الأوسط. المواجهة سواء في الصراعات أو في الحوارات هي أجزاء أساسية من عملية واحدة هي إدارة العلاقات الدولية، والأحداث الكبرى التي تغير مجرياتها تبدأ من تحليلات المعلومات والمعطيات أي من تقديرات المخابرات. والأخيرة تصاغ دوماً بهدوء ومن دون ضجيج... مثل هذا التقدير تماماً! * كاتب مصري