واشنطن - ما لها وما عليها

نشر في 31-03-2008
آخر تحديث 31-03-2008 | 00:00
 د. عمرو حمزاوي

الوجه الاجتماعي والثقافي للحياة في العاصمة الأميركية شديد الرتابة ويفتقر إلى حيوية مدن كنيويورك ولندن وباريس وبرلين. بمجرد انتهاء يوم العمل تتحول واشنطن، وباستثناء الأحياء التي تقطنها تجمعات طلابية كبيرة، إلى مدينة أشباح لا روح لها، ففي حين تمتلك باريس دار أوبرا رائعة الجمال لها برنامج سنوي حافل وفي برلين وحدها ثلاثة دور للأوبرا، ليس في واشنطن دار أوبرا واحدة.

للحياة في واشنطن وجهان، أولهما مهني مبهر والآخر اجتماعي وثقافي لا جمال فيه على الإطلاق، صناعة وممارسة السياسة والتأثير في مخرجاتها ودراستها والنقاش حولها هي صناعة العاصمة الأميركية الوحيدة، وفيها يوظف العدد الأكبر من سكانها. في واشنطن أكبر تجمع لجماعات الضغط والمصالح في العالم (ما يقرب من 35000 جماعة وفقاً لتقديرات عام 2005) وكذلك العدد الأكبر من مراكز الأبحاث السياسية ودراسات صناعة القرار إذا ما قورنت بالعواصم الغربية أو غير الغربية الأخرى (50 مركزا كبيرا وما يتجاوز المئة من المراكز الصغيرة). وينطبق نفس الأمر على المشتغلين بالإعلام السياسي إذا ما استثنينا مدينة نيويورك وفيها مقر الأمم المتحدة والعاملون في مؤسسات السلطة التشريعية (الكونغرس) والسلطة التنفيذية (البيت الأبيض والوزارات ووكالات الاستخبارات وغيرها).

وقد أتيحت لي خلال السنوات الثلاث الماضية فرصة رائعة للتعرف عن قرب على الكيفية التي تتم بها صناعة السياسة الخارجية بواشنطن خصوصا تجاه الشرق الأوسط ومراحلها المختلفة من تداول الأفكار والرؤى حول القضايا الاستراتيجية بعيدة المدى وتلك الآنية وصياغة بدائل سياسات وبحث إمكانات وعقبات تنفيذها، وصولاً إلى ترجيح بعضها ثم اختبار نجاحها على أرض الواقع وترشيدها أو إعادة صياغتها حال الفشل. بجميع هذه المراحل تتفاعل وتتقاطع دوائر صناع القرار التنفيذيين والتشريعيين وجماعات الضغط ومراكز الأبحاث والإعلام بصورة مؤسسية منتظمة، قد تحدها أحياناً الأهواء الأيديولوجية والشخصية أو القناعات السياسية لساكن البيت الأبيض على النحو الذي خبره الشعب الأميركي والعالم مع إدارتي بوش 2000-2008 إلا أنها لا تلغيها ولا تشخصنها تماماً، ومن ثم تضمن استمرارية طابعها التعددي وآليات التصحيح الذاتي والأمرين هما جوهر الصناعة الديموقراطية للسياسة. واشنطن إذن هي قبلة المهتم بالسياسة وتجربة شديدة الإبهار للراغبين في فهم طرائقها وأدواتها والتبحر في دراستها.

أما الوجه الاجتماعي والثقافي للحياة في العاصمة الأميركية فهو شديد الرتابة ويفتقر إلى حيوية مدن كنيويورك ولندن وباريس وبرلين. بمجرد انتهاء يوم العمل تتحول واشنطن، وباستثناء الأحياء التي تقطنها تجمعات طلابية كبيرة، إلى مدينة أشباح لا روح لها. نعم هناك بعض المسارح وعدد من دور السينما وهناك أيضاً مركز ثقافي وفني رائع هو «كيندي سنتر» وعدد كبير من المتاحف، إلا أن المعروض محدود للغاية وربما كان الطلب عليه أشد محدودية. على خلاف نيويورك ولندن وفيهما تعرض بانتظام أفلام غير غربية وأخرى تسجيلية وأعمال مسرحية لفرق عالمية، لن يجد المرء في واشنطن سوى أفلام هوليوود التجارية وفرق مسرحية محلية لا ينتظر منها الكثير. وفي حين تمتلك باريس دار أوبرا رائعة الجمال لها برنامج سنوي حافل وفي برلين وحدها ثلاثة دور للأوبرا تقدم باستمرار روائع الأوبرات الألمانية والإيطالية، ليس في واشنطن دار أوبرا واحدة. يغيب عن العاصمة الأميركية كذلك جنون نعم جنون المدن الغربية الكبرى، فلا مقاهي تسهر حتى الساعات الأولى من الصباح لمناقشة الفن والثقافة والسياسة كباريس ولا مسارح تعرض أعمالاً تجريبية وتسمح للحضور بمناقشة أصحاب العمل المعني في أفكارهم ولا منتديات فلسفية يلتقي أعضاؤها أسبوعياً للبحث بمعنى الوجود البشري وأسئلته النهائية كبرلين.

هل يفتقد سكان واشنطن ما أفتقده أنا أو هل هم تعساء؟ الحقيقة أن أغلبيتهم لا تبدو تعيسة، بل إن متابعتهم خلال أسبوع العمل أو في عطلة نهاية الأسبوع تعطي انطباعاً بالنشاط والحيوية الدائمة. الجميع، أغنياء وفقراء، مشغول بالركض وراء الحلم الأميركي، زوجة جميلة وأولاد أذكياء وبيت خاص بحديقة وأكثر من سيارة. نعم تختلف حظوظ النجاح والفشل، إلا أن الأهداف واحدة وبعالمها لا مكان للثقافة ولا يعدو الفن أن يكون ترفاً ومضيعةً للوقت.

* كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي - واشنطن

back to top