الإبادة كسلاح سياسي
ستدخل اللحظة التي ستعبر فيها القوات التركية إلى شمال العراق تاريخ المنطقة، باعتبارها تتخطى الهدف المعلن بملاحقة عناصر «حزب العمال الكردستاني»، ويبلغ هذا التقدير ذروة كفايته المنطقية بملاحظة عدم تناسب الحشد التركي الكبير (80 ألف جندي)، مع عناصر الحزب التي يناهز عددها 3500 عنصر فقط، لذلك فالتلويح التركي هنا هو باحتلال شمال العراق وليس الدخول لمهمة سريعة.دخلت العلاقات الأميركية- التركية منعطفاً جديداً بعد تصويت الكونغرس الأميركي بأغلبية 27 مقابل 21 على مشروع القرار 106، الذي يدين «مذابح الأرمن» التي جرت في تركيا عام 1915 باعتبارها «إبادة جماعية» منظمة، ويرتب مشروع القرار مسؤوليات قانونية على الجمهورية التركية، وريثة الدولة العثمانية، ومسؤوليات سياسية على إدارة الرئيس جورج بوش المتحالفة مع حكومة حزب «العدالة والتنمية». ويفتح مشروع القرار تساؤلات حول الدوافع والأسباب التي تقف خلفه، خصوصاً لجهة التوقيت بسبب أن الحادثة المذكورة وقعت قبل أكثر من تسعين عاماً، ولجهة محل الاختصاص الذي يفترض أن يكون موكولاً للمؤرخين وليس لرجال القانون أو السياسة، وتزداد علامات الاستفهام أكثر في ضوء عضوية تركيا في حلف الناتو وحربها الجادة على الإرهاب، وتعود الدهشة لتكبر بملاحظة استخدام واشنطن «الإبادة» كسلاح سياسي في مواجهة حليف تاريخي، جاء رد الفعل التركي- كما هو متوقع- غاضباً وصاخباً، إذ صدر العنوان الرئيسي لصحيفة «وطن» كالتالي: «27 أميركياً غبياً»، أما صحيفة «حرييت» واسعة الانتشار فاختارت عنواناً افتتاحياً يؤدي إلى المعنى نفسه، ولكن بمفردات أكثر رصانة، إذ وصفت خطوة الكونغرس بأنها أنتجت: «قانون الكراهية». وهكذا أطلق الكونغرس الأميركي تناقضات كامنة في تركيا من عقالها، بحيث أصبحت حكومة أردوغان في مهب ريح النقد القادم من المؤسسة العسكرية ومؤيديها من الأحزاب والتيارات القومية. وكانت حكومة حزب «العدالة والتنمية» قد عبرت بنجاح اختبار الانتخابات البرلمانية وانتخابات رئاسة الجمهورية واستفادت من حملة المؤسسة العسكرية عليها، ولكن الحملة الجديدة تلقى صدى أكبر لدى دوائر واسعة من الأتراك، بما فيها أعضاء من حزب «العدالة والتنمية» نفسه. بالتوازي مع قرار الكونغرس الأميركي ينظر البرلمان التركي خلال الأيام القادمة في مذكرة تقدمت بها الحكومة لاستصدار قرار يخولها بمقتضاه ملاحقة «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق، لعام قابل للتجديد. وكانت الأسابيع الماضية قد شهدت حشداً تركياً كبيراً على طول الحدود مع العراق بالترافق مع قصف مدفعي مكثف لبلدات غير مأهولة بالسكان في شمال العراق، في تصعيد يهدد بتغيرات عميقة في بنية التوازنات في كامل المنطقة وليس العراق فقط (راجع مقالنا هنا في 8/8/2007). ويبدو أن أنقرة اختارت القرى غير المأهولة بالسكان مكاناً لقصفها المدفعي، لتوجه رسالة سياسية عنيفة يتعدى مفادها أن تركيا لن تسمح بتسلل عناصر الحزب إلى أراضيها، بل تعني أن أنقرة لن تسمح بضم الأكراد إلى مدينة كركوك الغنية بالنفط إلى منطقة حكمهم الذاتي في شمال العراق وستتحين الفرص كلها لمنعهم من ذلك (راجع مقالنا هنا في 5/6/2007). ستدخل اللحظة التي ستعبر فيها القوات التركية إلى شمال العراق تاريخ المنطقة، باعتبارها تتخطى الهدف المعلن بملاحقة عناصر «حزب العمال الكردستاني» في منطقة جبال عمران الذي دخلته تركيا أكثر من 30 مرة خلال ربع القرن الأخير. ويبلغ هذا التقدير ذروة كفايته المنطقية بملاحظة عدم تناسب الحشد التركي الكبير (80 ألف جندي)، مع عناصر الحزب التي يناهز عددها 3500 عنصر فقط، لذلك فالتلويح التركي هنا هو باحتلال شمال العراق وليس الدخول لمهمة سريعة. وتلعب الوعورة الطبوغرافية دوراً في مضاعفة الأزمة، لأن منطقة جبال عمران التي يتحصن فيها عناصر الحزب تصعب طبيعياً من عمل القوات المهاجمة، كما أن وعورة التضاريس السياسية في العراق تزيد مهمة الحل السياسي تعقيداً. وإذ يتشارك رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مع أكراد العراق في أهداف كثيرة تتعلق بهيكلية تقاسم السلطة في العراق حالياً، إلا أنه يعود ليختلف معهم في مسألة حدود الصلاحيات الممنوحة للأقاليم العراقية مقابل الحكومة المركزية في بغداد. والأخيرة لا تسيطر على الوضع في الشمال العراقي حتى بالحد الأدنى، لأنها لا تملك قوات نظامية هناك، ولذلك تعدم حكومة بغداد إمكان التأثير على مجريات الصراع الدائر في الشمال. يمكن تفسير التطورين التشريعيين في كل من أنقرة وواشنطن على هدي من السياق الذي يحكم الأحداث الحالية، فأنقرة المتوجسة من طموحات الأكراد تستخدم الحشد العسكري للضغط على واشنطن؛ كي تضغط بدورها على الأكراد وتلجم طموحاتهم التي ما كان لها أن تظهر بهذا السفور من دون الغطاء الأميركي. والخط الأحمر الأميركي الذي يراه الساسة الأتراك مرتسماً على حدود بلادهم مع شمال العراق، لا يعني تعاطفاً أميركياً مع «حزب العمال الكردستاني» الذي تعتبره واشنطن إرهابياً، بل يراعي عوامل جيوبوليتيكية تأخذها واشنطن بالحسبان. أما واشنطن التي تخشى من تدمير معمارها التحالفي في العراق من جراء دخول تركيا إلى الشمال، وهو ما سيقلب التوازنات الحالية، فإنها تظهر لتركيا -بموجب قرار الكونغرس- أن الشراكة معها لها حدود لا يمكن تخطيها من جانب واحد.واللافت في هذا السياق أن القرارين غير ملزمين حتى الآن، فلا قرار الكونغرس الأميركي يلزم الرئيس من دون موافقة مجلس النواب، ولا قرار البرلمان سيلزم الحكومة التركية بالتدخل العسكري إذا أمكن حل الموضوع بالطرق الدبلوماسية. وهكذا يتوقع أن توضح الأسابيع المقبلة نتيجة المباراة الدائرة بين الحليفين، في حين يبقى ممكناً الآن استنباط نتيجتين؛ أولاهما، أن السياسة تعكس دائماً قانون الوحدة والصراع الذي صكه الفيلسوف الألماني هيغل، بمعنى أن التحالف بين شريكين لا يمنع من وجود صراعات بينهما لتحقيق أقصى المصالح تحت سقف هذا التحالف. أما النتيجة الثانية، فمفادها أن الأكراد عادوا من جديد ليكونوا ورقة تُستخدم من أحد الأطراف كأداة للمناورة السياسية في المنطقة، وهو التقليد التاريخي الذي ظل الأكراد يدفعون بموجبه ثمناً غالياً على الدوام.* كاتب وباحث مصري