تجديد الخطاب الديني... الأزمة المستعصية

نشر في 15-10-2007
آخر تحديث 15-10-2007 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري

أليس الأوفق من أجل تحسين صورة الإسلام والمسلمين، الكف عن نقل أدعية التحريض والكراهية التي لو ترجمت لفزِع الأوروبيون من كم اللعنات عليهم، ولفزِعوا من المسلمين مما هو حاصل الآن؟!

دعا الرئيس المصري حسني مبارك العلماء والدعاة والمفكرين إلى تجديد الخطاب الديني، مؤكداً الحاجة الى خطاب ديني متطور ينشر قيم الاعتدال والتسامح ويحاصر الغلو والتطرف ويركز على جوهر الدين، وحمَّل الرئيس المصري في كلمته خلال الاحتفال بليلة القدر، العلماء والدعاة والمفكرين مسؤولية تجديد الخطاب الديني قائلاً: تلك مسؤوليتكم فانهضوا بها.

وبالأمس القريب استقبل رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة سمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، العلماء والكتَّاب والصحافيين، ودعا العلماء إلى القيام بواجبهم في إبراز تعاليم الإسلام السمحة ونشر المحبة والاعتدال بين المسلمين كافة.

كما استقبل سمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد وزير العدل والأوقاف وأعضاء هيئة الفتوى وأكد بذل المزيد من الجهود لنشر تعاليم الدين الإسلامي ومبادئه السمحة التي تتميز بالوسطية والاعتدال حتى يساهم في خلق مجتمعات مترابطة وتنشئة أجيال صالحة.

وبمناسبة الذكرى الثامنة لتوليه الحكم، حث العاهل المغربي الملك محمد السادس المثقفين إلى جانب العلماء على أن يقوموا بدور تنويري بدلا من ترك الشباب عرضة للضياع والظلاميين الذين يشحنون ضعاف النفوس والعقول لحملهم على الأفعال الانتحارية المحرمة شرعاً وقانوناً. هذه اللقاءات وتلك الكلمات التي تكررت خلال شهر واحد هو شهر رمضان الفضيل، تأتي لتعبر عن عمق إحساس القادة والزعماء بأزمة الخطاب الديني ولتعكس حجم معاناة مجتمعاتنا من الدور السلبي والتحريضي الذي يلعبه الخطاب الديني السائد. وواضح أن رغبة القادة والزعماء ملحة في إصلاح هذا الخطاب المعلول، وهو إصلاح لا يتعلق «بالنص» المقدس، ولا يمس «الثوابت» الدينية وإنما ينصب على خطاب الدعاة والوعاظ والخطباء والمفتين والباحثين والذي يؤدي دوراً بارزاً في تشكيل «وجدان» المسلم وفي تكوين «عقله» وتحديد مفاهيمه وتصوراته ومواقفه سواء في ما يتعلق بمجتمعه (مواطنين ومقيمين) أو في ما يتعلق بالنظام السياسي الذي يحكمه، أو في ما يتعلق بنظرته إلى الشعوب الأخرى غير المسلمة. ولذلك من السخف ادعاءات رموز دينية مسكونة بهواجس تآمرية، بأن تجديد الخطاب الديني، إملاء من الغرب وأميركا حتى نمشي في ركابهم ونكون مطية لهم، فهم يريدون إلغاء التعليم الديني وحذف آيات الجهاد بهدف التغريب وطمس الهوية الدينية الإسلامية بسبب الرواسب الصليبية الحاقدة في نفوسهم. هذه ادعاءات وأقاويل «واهمة» وإن كانت رائجة في الساحة، يجب ألا نلتفت إليها ولا نعيرها أي أهمية، لأن منطلقها فكر «تخويني» بائس يحتكر الدين والوطنية، يتهم الأنظمة العربية والحكومات ودعاة الإصلاح بأنهم تابعون ينفذون المخططات الأميركية. فلا الغرب يطالبك بالتخلي عن ثوابتك ولا أحد يريد طمس هويتك أو أن تترك دينك وتلغي مقدساتك، بل ذلك غير متصَّور - أصلاً - في العلاقات الدولية المتبادلة إلا لدى من يريدون نشر تلك الأوهام لخدمة مصالح حزبية ضيقة تتلاعب بعواطف الجماهير وتسمم عقولها بمثل تلك الأراجيف حتى ينقم الناس على حكوماتهم. الغرب هو الذي ينفق على مساجد المسلمين في أوروبا ويصونها ولا يرى بأساً في أن تتحول كنائسه إلى مساجد مفتوحة للعبادة، وهو يفتح أبوابه على مصراعيه للدعاة ليصولوا ويجولوا، حتى لو تطاولوا على الأوروبيين وحولوا أبناءهم وبناتهم إلى الإسلام، ولا يجد في ذلك غضاضة، بينما نحن نمنعهم كل ذلك!! وهؤلاء إذا طالبوك وشجعوك على إصلاح خطابك وتعليمك الديني فذلك لمصلحتك ومصلحة مجتمعك وحماية لأجيالك من أن يتخطفهم الإرهاب. وأيضاً... يريدون أن يأمنوا شرور أولادنا الذين لم نحسن تربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم بقيم ومبادئ الإسلام فانبعثوا في الأرض يفسدون ويعتدون على الآمنين. وكذلك ليس المقصود من تجديد الخطاب الديني ما توهمه «المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث» من أن التجديد يكون بتغيير أساليب الدعوة وفنون التعليم فذلك غير مجدٍ، بل ذلك حاصل فعلاً في استغلال بعض الأئمة والدعاة تقنية الاتصال وفنون الاتصال الحديثة استغلالاً بشعاً سواء في مكبرات الصوت الصاخبة أو الشبكة الإلكترونية المتطرفة أو الفضائيات المُحرضّة إذ تحول دعاء «القنوت» في «الوتر» في الشهر الفضيل إلى دعاء «تحريضي»، إذ يسرف بعض الأئمة في تطويل «القنوت» بالصراخ والبكاء والنحيب والعويل والتشنج والتضرع إلى الله لهدم البيوت وتيتيم الأطفال وترَميل النساء، والدعاء للمجاهدين (الإرهابيين) في العراق وأفغانستان والصومال في مشهد أشبه بالتمثيل لم نعهده قبل نقل الفضائيات له. هل كان الإمام سيطّول ويبالغ في الدعاء والعويل لو لم تنقله الفضائيات؟ إنها فتنة النقل المباشر للأئمة، بل إن بعض الأئمة وفي سبيل تحسين الصوت وجودته يهتمون بمكبرات الصوت على حساب الخشوع حرصاً على الوقوف مباشرة أمام الميكرفون. أليس الأوفق من أجل تحسين صورة الإسلام والمسلمين، الكف عن نقل أدعية التحريض والكراهية التي لو ترجمت لفزع الأوروبيون من كم اللعنات عليهم ولفزعوا من المسلمين مما هو حاصل الآن؟!

إن المقصود بتجديد الخطاب الديني تجديد شامل للآليات والأساليب والمضامين، ولبنية الخطاب الديني نفسه ولأهدافه، فالتجديد ضرورة ملحة لعبور فجوة التخلف الواسعة التي تفصل العالم الإسلامي عن العالم المتقدم، وقد كان مسعى أساسيا في مسيرة الثقافة العربية الإسلامية منذ فجر الإسلام، وهو ضرورة داخلية عميقة تنبع من رفض العرب والمسلمين لوضعهم المتردي، وهي مهمة لا تنحصر في جهد علماء الدين المستنيرين، بل يجب أن تكون من أولى مهام المفكرين والمثقفين ومنظمات حقوق الإنسان انطلاقا من النظر إلى الإنسان باعتباره قيمة مركزية عليا، ومن أهمية تحكيم العقل في كل شؤون الحياة (إعلان باريس). وما قامت الحضارة الإسلامية وامتدت إلا بفكر وخطاب متجددين، وحين توقف التجديد ران على العقل المسلم، الصدأ، عبر ألف عام وحتى الآن، فالحاجة الآن مُلحة إلى إعادة تشغيل طاقات التجديد بخطاب ديني منفتح على العصر ومتصالح مع العالم، قادر على مواجهة التحديات ومؤهل لتحمل المسؤوليات وفاعل في تحصين مجتمعاتنا من آفات التطرف.

والأسئلة المطروحة الآن هي: لماذا تجديد الخطاب الديني؟ ما المضامين والأهداف المنشودة؟ وهل يمكن تجديد الخطاب الديني؟

بالنسبة إلى السؤال الأول، كل الشواهد تؤكد فشل الخطاب السائد فشلاً ذريعاً في مهماته وأهدافه الرئيسية ومنها:

1 - بالرغم من تسخير الموارد وهيمنة الإسلاميين على مراكز التوجيه والتعليم والدعوة وانتشارهم وتغلغلهم في المجتمع ومؤسسات الدولة ولاسيما الاقتصادية، فقد فشل الخطاب الإسلامي في تحصين مجتمعاتنا تجاه أمراض التطرف، وأخفق في حماية أبنائنا من فكر العنف وعجز عن تقوية مناعتهم تجاه غزو الفكر الإرهابي.

2 - فشل الخطاب الديني، بالرغم من الدعم والموارد، في تقديم صورة إيجابية عن الإسلام والمسلمين أمام العالم بعد أن شوهت صورتهم العمليات الإرهابية على أيدي الفئة التي نسميها «ضالة» تهرباً من مسؤولياتنا مع أن الذين ضللوهم مشايخ مازالوا ممكنين بيننا، بل إن الخطاب الديني لم ينجح في تصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام لذلك أصبح العالم يتوجس تجاه ما هو عربي وإسلامي وأصبحنا مصدر تنفير وتوتر، وزاد الطين بلة أن الخطاب الديني المهاجر حمل أمراضه معه فشقيت الجاليات الإسلامية به، وعرقل اندماجهم... والبركة في الفتاوى التي تلزم المسلم المقيم في «بلاد الكفار» بأن يضمر العداوة لهم!! عجباً لخطاب يصف أميركا بأنها بلاد الكفر، وفيها الملايين من المسلمين وآلاف المساجد!! بريطانيا وحدها بها «1500» مسجداً، ومهما ملأنا الأرض صراخاً بأننا أمة تدعو إلى الخير والتسامح، فلن يصدقنا العالم، إذ يرانا غير متسامحين مع بعضنا، على مستوى الممارسات المجتمعية ومبدأ المساواة وحقوق المواطنة.

الغرب يحكم على الإسلام من خلال سلوكنا وممارساتنا فهي الفيصل لا النصوص ولا المُثُل أو المبادئ والشعارات التي تبقى معلقة في الفضاء، تتصادم وحقائق الواقع المجتمعي.

3 - أخفق الخطاب الديني في تفعيل القواسم المشتركة بين المذاهب والأديان، بل تحول إلى عامل تأزيم وفرقة بين الطوائف والمذاهب بترويج الخطاب المذهبي التعصبي وتأجيج مشاعر الكراهية والشحن الطائفي كما في العراق ولبنان، ومازال يغذّي الصراعات السياسية والاقتتال المذهبي وينتصر للمذهب والطائفة على حساب تعزيز المشترك الديني وتفعيل مبدأ المواطنة الجامعة التي تعلو فوق الانتماءات والحواجز كلها، وبالرغم من المؤتمرات جميعها التي جمعت الفرقاء وجرمت التحريض، فإن شيئاً من ذلك لم يُفعّل بعد!.

4 - عجز الخطاب الديني عن مواكبة جهود الدولة في مجالات التنمية والانتاج والعمل، بل إنه كان عاملاً معوقاً -في حالات كثيرة- لجهود التنمية والتحديث، خصوصاً في ما يمس المرأة ومشاركتها في الحياة العامة وإدماجها في عملية التنمية.

5 - لايزال الخطاب الديني «ماضوياً» ينوء بعبء «التاريخ» وتقديس أبطاله، يتغنى بالأمجاد، ويقول «كان أبي...»، وهو معزول تماماً عن حركة المجتمع الخليجي -أكبر منطقة معولمة تجتذب الاستثمارات العالمية- وغائب عن تحولاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يخرّج أفواجاً من الخطباء والوعاظ لا حاجة لنا بهم كحاجتنا إلى القانونيين والمهندسين والأطباء والعلميين والتقنيين.

* كاتب قطري

back to top