حقائق الصراع السني – الشيعي في لبنان

نشر في 21-08-2007
آخر تحديث 21-08-2007 | 00:00
 علـي بلوط

حقيقة ما يجري يمكن اختصاره في صراع على الشراكة، ليس بين المسيحيين، بل بين المسلمين أنفسهم. فالشيعة والسنة هذه الأيام تتناطحان وتتلاكمان حول: من سيكون شريك المسيحي في لبنان؟

لا أدري لماذا يدس المسيحيون اللبنانيون – كل المسيحيين – أنوفهم حتى الثمالة في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فالناقة أو الجمل (رئاسة الجمهورية) مضمونة لهم سواء ذهبت إلى ميشال، أو بطرس، أو أمين، أو سمير، أو ... فالحقيقة اللبنانية الثابتة التي لا يمكن تغييرها أو حتى مجرد اللعب بها هي طائفية ومذهبية الرئاسة الأولى. ولو حدث عكس ذلك، فإن لبنان، المبني على لعبة الألوان المتناسقة، يفقد قيمته الفنية ويصبح لوحة «بايخة» لا يشتريها أحد، ولا يكلف نفسه حتى عناء إلقاء نظرة خاطفة عليها.

ما أريد قوله باختصار أن اللون المسيحي هو الذي يجعل من لبنان لوحة ذات قيمة عالية، وأنه بمنزلة اللون الأصفر في لوحات الرسام «فان غوغ» فمن دونه تنتهي أسطورة هذا الرسام العالمي الشهير. فعلام هذه الضجة الكبرى، وإلام هذا الخلاف الكبير في المجتمع اللبناني ككل، والمجتمع المسيحي بصورة خاصة؟

زوال بني عثمان

إن حقيقة ما يجري يمكن اختصاره بصراع على الشراكة، ليس بين المسيحيين، بل بين المسلمين أنفسهم. فالشيعة والسنة هذه الأيام يتناطحان ويتلاكمان حول: من سيكون شريك المسيحي في لبنان؟ ولشرح هذه المقولة، أو النظرية إذا أحببتم، لا بد من العودة الى البعيد والقريب معاً. ففي الماضي البعيد عانى الفريق الشيعي إذلال الحكم العثماني الذي استمر نحو 500 سنة. وكانت محصلة هذا الحكم إيقاف العقل العربي عن التفكير في طول الإمبراطورية العثمانية وفي عرضها. وكان للشيعة النصيب الأكبر من هذه المعاناة.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وزوال إمبراطورية بني عثمان، استمرت معاناة الشيعة كفريق مذهبي من مذاهب الإسلام العديدة. والسبب الرئيسي لهذه المعاناة يرجع إلى حالة التخلف والفقر التي كانت سمة الشيعة أينما وجدوا. ومع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وجد هذا الفريق أن السلاح الوحيد لرفع المعاناة هو تلقي العلم. لذلك رأينا أن الفلاح في أرضه، والعامل في مصنعه والموظف في مكتبه لا هَّم له سوى تهيئة فرصة العلم لأبنائه على حساب قوت يومه ونوعية هذا القوت في كثير من الأحيان. أي أنه كان يتناول وجبة طعام واحدة في اليوم بدلاً من ثلاث، لا فارق عنده أن تحتوي هذه الوجبة على ما لذ ّ وطاب طالما أنه يوفر قليلاً من المال لتعليم أبنائه.

وهكذا بدأ، مع خمسينيات القرن الماضي، ظهور طبقة متعلمة من الشيعة فاقت حدّ التصور. وقبل انتهاء القرن العشرين ظهرت الرغبة في إزالة الغبن التاريخي، وبالتالي المطالبة بالمشاركة في اتخاذ القرارات، وإدخال اللون الأخضر، وهو اللون الشيعي المعتمد، إلى مجموعة ألوان اللوحة اللبنانية. لكن مشاركة من؟ في ذلك الوقت، ومنذ إنشاء كيان لبنان في العشرينيات، وتحوله إلى دولة لبنان الكبير في الأربعينيات، لم يكن للمسيحيين الذين مازالوا مقتنعين إلى اليوم بأن لبنان وُجد لهم، سوى شريك واحد هو الفريق السني لاعتبارات موروثة، لعل أولاها، أن هذا الفريق يشكل في لبنان نقطة في محيط سني واسع متلاطم الأمواج، سعت الإمبراطورية العثمانية إلى أخذ واقعه بعين الاعتبار، وحذت حذوها القوى السياسة العالمية التي ورثت تركة العثمانيين.

ستة ... وستة مكرر

لذلك اتجه الفريق الشيعي في اتجاهين: الأول؛ إقناع المسيحيين بأن الوقت قد حان لإعطائهم حصة من كعكة لبنان الكبير، مأخوذة من حصة السنة وليس من حصتهم كمسيحيين. واقتنع مسيحيو ما قبل الاستقلال بجدوى وأحقية الفريق الشيعي، خاصة أن ذلك لا يأخذ من حصتهم شيئاً، بل على العكس يضعف نفوذ الحصة السنية. وكان الميثاق الوطني غير المكتوب الذي اعتمد بعد الاستقلال والذي أعطى المسيحيين الموارنة رئاسة الجمهورية، والسنة رئاسة الوزراء، والشيعة رئاسة مجلس النواب. ومازال هذا الترتيب يعتمد إلى يومنا هذا.

أما الاتجاه الثاني الذي سلكه الفريق الشيعي فهو السعي الى المشاركة في النفوذ التنفيذي، أي زيادة عدد وزرائهم ونوعية هذه الوزارات، بعد أن ضمنوا النفوذ التشريعي، أي رئاسة مجلس النواب. ولأن قاعدة ما اتفق على تسميته 6 و 6 مكرر في توزيع الحصص تعطي المسيحيين كلهم، لا الموارنة وحدهم، نصف المراكز الرئيسة في الدولة، والنصف الآخر للمسلمين لا للسنة وحدهم، بدأ صراع السنة والشيعة حول من يأخذ الحصة الأكثر والأقوى. وكان للسنة الغلبة في مرحلة الخمسينيات لأن المجتمع الشيعي لم يكن قد تمكن بعد من إفراز قيادات لا تعتمد المساومة على حقوق الطائفة، بل كانت تعتبر أن حصول هذه القيادات على حقوق هامشية شخصية بمنزلة حصول الطائفة على كامل حقوقها.

السنة ولعبة الشراكة

استمر هذا الوضع الى العام 1975 حيث دخل لبنان في متاهات الحرب الأهلية التدميرية. وتمكن الفريق الشيعي، خلال هذه الحرب القذرة، من تغييب قياداته التي تساوم على حقوق الطائفة وظهور قيادات جديدة تمثل أحلام وطموحات المشاركة بكل أبعادها. ولا يختلف اثنان على القول إن الشيعة هم الطائفة الوحيدة في لبنان التي استفادت من الحرب الأهلية، فغيرت وبدلت زعماءها القدامى، بينما بقيت قيادات الطوائف الأخرى، التقليدية الموروثة، حاكمة ومتحكمة. وبلغت الطائفة الشيعية ذروة قوتها في بداية الألفية الثالثة عندما التحم جناحاها (حركة امل وحزب الله) برباط استراتيجي أنتج ما أنتجه اليوم من تعزيز للقدرة على تطبيق وتنفيذ شعار المشاركة... مع السنة طبعاً، الذين بدؤوا بدورهم ينظرون بعين الشك والخوف والغضب معاً إلى توأمهم الإسلامي الآخر، الشيعة، الذي يسعى إلى «تشليحهم» بعض مكاسبهم.

بلغ التخوف عند الفريق السني مبلغه عندما وجدوا أن شريكهم القديم المسيحي، خاصة الماروني، قد انقسم على نفسه في «حرب المشاركة» بين السنة والشيعة إلى فريقين: تقليدي وتحديثي. التقليديون بزعامة أحزاب «الكتائب» و«الوطنيين الأحرار» و«القوات اللبنانية»، بالإضافة إلى الكنيسة وغيرها من التجمعات الحزبية الصغيرة، تمسكوا بشراكة شريكهم التقليدي السنة، لاعتبارات عديدة أهمها؛ أن السنة هم امتداد للمحيط العربي الذي يمثل العمق الاقتصادي والسياسي للبنان. وهم، أي السنة، نجحوا في امتحانات التجارب السابقة في المحافظة على قواعد لعبة الشراكة. أما التحديثيون، وأبرز من يمثلهم تيار العماد ميشال عون، يرون أن هناك قاسماً مشتركاً بين مسيحيي – الموارنة وبين شيعة – الإسلام. فالاثنان يفقدان وجودهما الأساسي في حال ضياع استقلال لبنان، واندماجه في اي عملية وحدوية قد تأتي بها الايام القادمة. وباختصار، فإن الفريق التحديثي المسيحي، يرى في الشيعة اكثر لبنانية وتمسكاً بالاستقلال من السنة الذين برهنت تجارب الأيام الماضية على اعتمادهم الكلي على العمق العربي السني في تأمين نفوذهم السياسي والاقتصادي والمعنوي.

من هنا انتقل الصراع السني – الشيعي على المشاركة، إلى اشتباك مسيحي – مسيحي على اختيار الشريك المسلم. وما يدور الآن من معارك سياسية في الطائفة المسيحية على رئاسة الجمهورية لا يخرج، في قناعتي وقراءتي، عن تلك الحدود. هذا إذا أخرجنا من الحسابات المصالح الإقليمية والدولية التي تصر على أن تؤدي دور الناخب الأول والوحيد في معركة الرئاسة اللبنانية الأولى.

* كاتب لبناني

back to top