الثقافة: التفسير الانثروبولوجي
تأليف: آدم كوبرالناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون
يقدّم كتاب «الثقافة: التفسير الأنثروبولوجي»، لمؤلفه آدم كوبر، ترجمة تراجي فتحي ومراجعة د. ليلى الموسوي يقدم صورة واضحة ومختصرة عن أثر المتغيّرات الفكرية السياسية في تكوين نظرية الانثروبولوجيا التي انعكست على تفسير الثقافة وموضوعها وجلاء مفهومها، كأداة تحليلية في العلوم الاجتماعية، وصولاً إلى التساؤل عن مهامها في الاشتغال على الثقافة وتعريفها وعن علم الاكنوغرافيا، مروراً بتشكّل المصطلحات والمفاهيم عبر الزمن. كان المفهوم الألماني للثقافة في القرن الـ 19 مشابهاً للفكرة الفرنسية عن الحضارة. اقترح الكسندر هامبولت أنه قد تكون للقبيلة الوحشية حضارة بمعنى النظام السياسي من دون مستوى عالٍ من الثقافة الروحية، والعكس صحيح أيضا. ثم ظهر التساؤل الفلسفي في الاختلاف، بمعنى هل يتّفق التقدير النسبي للفروق بين الثقافات مع المفهوم القديم عن الحضارة الإنسانية العامة؟ فالحضارة في نظر علم الاجتماع هي، بحسب كوبر، جمعية مميزة، لكنها ليست معادلة لما يطلق عليه دوركهايم «الوعي الجمعي» للمجتمع، لأنها ليست مقصورة على شعب بعينه. ثم تطور في ما بعد مفهوم الثقافة الألماني من خلال الجدل مع مفهوم الحضارة الكونية الذي ارتبط بفرنسا. مصداقيّة الحضارة شكّك تي. أس. إليوت في مصداقية الحضارة أو الثقافة، فعرّفها على أنها أسلوب حياة، أو أنها تشمل الأنشطة والاهتمامات المميّزة لشعب ما، ثم انطلق الخطاب الانكليزي بشأن الثقافة على لسان الشعراء الرومانسيين. صنّف تالكوت باريمونز (عالم اجتماع اميركي) في كتابه «النظام الاجتماعي»، عالم الأشياء المادية على أنه يتألف من ثلاث طبقات هي: الاجتماعية والطبيعية والثقافية وتشكل كل طبقة من هذه الأشياء نظاماً. اقترح بارسونز أن علم الثقافة هو ما تسعى الانثروبولوجيا الى أن تكونه، ما يعني بالنسبة إليه إعادة ترتيب العلوم الاجتماعية على أسس وظيفية وستُكلف الأنثروبولوجية بدراسة الثقافة.وبالنسبة إلى تايلور، فإن الثقافة أو الحضارة هي الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاقيات والقانون والعرف الخ... وبرز فرانس براس كمسؤول عن تقديم الدلالات الانتروبولوجية المعاصرة للفظ الثقافة. ثم ظهر ك.جيرتز، في الوقت المناسب لقيادة الأنتروبولوجيا الثقافية الأميركية، ليكشف عن ثلاثة أزواج من الأنماط النموذجية المتضادة (خلال دراسته عن التجربة البالينيزية في أندونيسيا) بين الثقافة والبنية الاجتماعية، ثم بين الدولة التقليدية والحداثة، حيث لا تعود الأفكار والقيم القديمة تتماشى مع السياق الاجتماعي الجديد. وأخيراً فإن العقيدة هي أقسى تجسيد للثقافة في المجتمع التقليدي، بينما تعدّ الأيديولوجيّة هي المجسّد لها في المجتمع العصري.أما جيرتز فجاء في رسالته أن الثقافة هي العنصر الأساسي في تعريف الطبيعة البشرية والقوة المهيمنة في التاريخ، فالثقافة تحكّم. يقول د. شنايدر بأن هناك بنى ثقافية للواقع فحسب، بهذا المعنى ليس لـ «الطبيعة» و «حقائق الحياة» اي وجود مستقل بعيداً عن كيفية تعريفها من خلال الثقافة، بينما انصبّ اهتمام مارغريت ميد على تأثير الثقافة في تطوّر الشخصية. أما شنايدر فركز على تحليل صلات القرابة من خلال المنهج الثقافي، محاولا ومعه كل من جيرتز وفولدز، جعل الانثروبولوجيا علماً للثقافة وضد اقترانها بالانثروبولوجيا الاجتماعية أو البيولوجية، بعدما اعتمدت دوما على حقيقة أن صلات القرابة قد شكلت أسس النظم الاجتماعية البدائية. اعتبر شنايدر أن نظرية القرابة تلك قد أسست على أساس وهمٍّ عرقيين، وجادل كلود ليفي ستراوس بأن نظم صلات القرابة تلك قد أسست جميعاً على التعارض الكوني بين الطبيعة والثقافة، وبأن التمييز بينهما هو اصطناع غربي؛ ومعنى ذلك أنه يمكن إدراك صلات القرابة من خلال المصطلحات الثقافية. أما ديفيد لابي في دراسته عن شعب «الياب» فدعا إلى كشف غموض مفاهيمهم الثقافية؛ أي فهمها انطلاقا من تصنيفات لوضعية مادية واجتماعية معينة.نظرية التطوربعدما أحرزت النسبية الثقافية تقدماً في مجال الانثروبولوجيا الاميركية جاء التطور، مع أن الجدد ومنهم مارشال سالينز كمجموعة راديكالية انجذبت إلى نظرية التطور بسبب روابطها الماركسية. أخذ سالينز على عاتقه التوفيق بين فكرة «وايت» القائلة بالتطور الكوني المطرد وبين تفضيل ستيوارد للنماذج المتعددة الاتجاهات التي تركز على عمليات التكيف المحلية. ويمكن بذلك وضع كل مجتمع على خط متصل من التطور بدءا من المجتمعات التي تساوي بين افرادها وتقوم على صلة القرابة، وصولا إلى الدول التي تقوم على التسلسل الهرمي للسلطة. قلل سالينز من أهمية النزعة الكلية عند ستراوس أي اقتناعه بأن العقل البشري يفرض قيوداً ثابتة على الظواهر الثقافية كلها. يعتبر ستراوس من مؤيدي النسبية الثقافية تقريبا، وهو الذي يقول بوجود شعوب ينظر اليها في الغرب كبدائيين، تفوقوا علينا في الإنجاز الأخلاقي وفي بعض المجالات التكنولوجية مثال «بولينزيا». من وجهة نظر سالينز فإن الانتربولوجيا قد أسست نقداً أساسيا للماركسية وتمثلت في خلافها مع البنيوية الفرنسية انطلاقا من تمثل العلاقة بين الفعل الإنتاجي في العالم والتنظيم الرمزي للتجربة.وفي بداية الستينات ساد شعور قوي في أميركا وفي العالم بأن التحول الذي تشهده الجامعات يتزامن مع تحوّلات في شؤون الأمة. كانت الامبريالية تخوض آخر معاركها وكان الطلاب يُجَندون لخوض حروب رأسمالية - استعمارية في حقول الرز في جنوب شرق آسيا، ثم يعودون إلى الحرم الجامعي وخدم العلماء والمهندسون المجتمع العسكري الصناعي. سرعان ما زلزلت المناقشات التي تدور حول تواطؤ الانثروبولوجيين في مشاريع مكافحة التمرد في شيلي وتايلند وبدأ النقاد الشباب الراديكاليون بتعرية الصلة الآثمة بين الانثروبولوجيا والنزعة الاستعمارية، كما تقول شيري اورتنر، التي تنبأت بحدوث تحول صوب نوع من سوسيولوجيا الفعل، قائمة على فكر بورديوا، بدلا من بارسونز. وهذا الاتجاه أعلن عن نفسه في كتاب عنوانه «كتابة الثقافة»، اعتبر أصحابه أن الثقافات الأخرى لم تعد معزولة عن ثقافتنا وتعد الثقافة الآن سوقا عالميا، حيث يبحث الناس عن الشيء الذي بواسطته يبتكرون هويات جديدة. ولا تزال الاختلافات الثقافية قائمة في هذا العالم الآخذ في التغيّر وثمة حرب ثقافية كونية تجري. إلا أن الغرب لا يضمن النصر فيها بشروطه الخاصة، فالتاريخ أساساً هو تاريخ ثقافي من نوع حداثي مألوف، ويتمثل موضوعه في انتشار العلم والتكنولوجيا والقيم النفعية، على حساب التقاليد الصغيرة والدول الثانوية المتأهبة للصراع، هذا تفسير تطوري، إلا أن موضوعه قد يكون التحديث وفرض الطابع الغربي. تقليدياً تنازع على وجة النظرة هذه فريقان: حزب التنوير الذي يرحب بالتقدم الذي تحرزه القيم العالمية على حساب الأعراف والخرافات المحلية، والحزب الرومانسي الذي يتصدى لمقاومة هذه الحضارة الامبريالية. بحسب هذا الحزب الأخير، فإن الثقافة نسبية ولا توجد قضايا كونية مطلقة. ثم يأتي تيار ما بعد الحداثة الاميركي الذي دعمته أيضا حركة اجتماعية عنوانها «الاختلاف»، وبحسبها لم تكن حوادث البيولوجيا بل الهويات الثقافية هي التي اوجدت الاختلاف، لذا يتعين تأكيد الهوية الثقافية واحترامها. وأخيرا ًهذا الكتاب جدير بالقراء لمتعته وفائدته.