صورة العدو
حين ندخل الحرب يكون من يُواجهنا عدواً، فلماذا يصرّ البعض منا بطريقة «القبضاي» أو القصص الشعبي عن أيام العرب، على أن يطلب الولايات المتحدة للنزال؟ هل لأنه لا يكتفي إلاّ بمواجهة أكبر رأس، أم لأنه في حالة عجز وتشويش يصر، ويريد إبعاد الأنظار عن بؤرة اهتمامه المفترضة في مجتمعه وبلده؟مرّت على هذه البلاد مئات السنين، بل آلافها، وهي ممرّ للآخرين ومطمع وميدان حروب. كانت المعارك معنا نحن عابرة أو جزئية أو ترتيباً للمواقع الأكثر أهمية في مستوى العولمة في كلّ عصر، ولا ينفي هذا أهميّتنا وعزة أنفسنا أبداً، لكنه ينظر إليها بطريقة أخرى، فقد حدث في سياق ما حدث أن دفعت بنا اللطمات جيئة وذهاباً إلى الانغلاق، فبنينا بيوتنا الشرقية على نسق ملتفّ على ذاته إلى الداخل، وأصبحنا نرتاب في ما هو خارجنا، بل ألغينا ما كانت «الأغوار» القديمة تؤمّنه من تواصل تجاري وثقافي وسياسي مع العالم، وبروح الانفتاح والإقبال.في العصر الحديث، اكتشفنا الاستعمار والصهيونية والرجعية والشيوعية كأعداء لا يشغلهم شيء عن التآمر علينا وغزونا وسلبنا وكراهيتنا.كان التركيز دائماً على العدو الصهيوني الذي أصبح إسرائيلياً، وهنالك إجماع على ذلك، ثم جاءتنا صداقات جديدة -للبعض منا-، وصار العالم منقسماً إلى حلفاء هم: «المنظومة الاشتراكية» و«حركة التحرر الوطني» و«نقابات العمال في الغرب»، وأعداء هم: الإمبريالية والرجعية والرأسمالية العالمية للبعض الآخر، وكان الغرب حليفاً والشيوعية والقومية الثورية عدوتين.حالياً هنالك الغرب الغازي قومياً وعقائدياً، و«الظلاميّة» القادمة خلف طلائعها المتفجرة. ما يلفت الانتباه دائماً، هو أن اصطناع الأعداء أو استحضارهم في حقل الصوت والصورة وصفحة الصحيفة يشتدّ حين نعود إلى طرح السؤال القديم: كيف نتقدّم؟يبدو حينئذ أنه لا يمكن البحث في مسألة ثانوية من نوع التحديث والتمدين والحرية والديموقراطية ومسؤوليتنا عن انتزاعها كلّها والانتقال إليها من حالة الاستبداد والتأخر، لأن هنالك مسألة كبرى يشنّ فيها الأعداء حرباً دائمة علينا، بل إن مشاركتنا في هذه الحرب شرط سابق أحياناً للمشاركة في الواجب المباشر الاجتماعي والمعرفي والسياسي، هنالك دائماً «ترحيل» للواجبات إلى حقل خارجي، ورفض لفكرة بديهية تقول إن مواجهتها بشكل أفضل تكون حين نكون أفضل. أحياناً تكون هذه المحاولات الغاضبة العنيفة النقيّة غطاءً للعجز والكسل بل الانتهازية وخشية مواجهة الذات أو السلطان. وأحياناً أخرى تكون إدماناً للثورية والعقائدية وغربة عن الواقع والوقائع، وفي كل الأحوال، تندرج تصنيفات الحلفاء والأعداء أو الأشقاء والأصدقاء في معادلات نفسية اجتماعية من كثافة الحكاية الشعبية وجاذبية الحارة أو العشيرة. العدو موضوع للكراهية، يختزن الحاجة والميل إلى الحرب، وهنالك في التاريخ العربي الحديث ما يجعل من إسرائيل نموذجاً لهذا العدو، العلّة في التوسّع المستمرّ في توليد العداوة وتنميتها، وربما في «التعويض» الذي يقدّمه الانحراف عن «العقلنة» والبرمجة والعمل.مثال مهم على ذلك ما يصطنعه عددٌ كبيرٌ من المتكلّمين العرب من صيحات حرب على الغرب عموماً، وعلى الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، وأسوأ منه تركيز الكراهية وصيحات الحرب على الجنس ونوع البشر.لا خلاف بشأن وحشية التاريخ الأميركي على السكان الأصليين، ولا حالات التعصب والعنصرية والهيمنة والأنانية، ولا الأخطاء الأميركية في دعم إسرائيل قياماً واستقراراً وعلى حسابنا دوماً، ولا التكالب على التمركز الاستراتيجي والسيطرة على مفاتيح النفط، ولا دعم سلطات الانفراد والتسلّط لفترات طويلة خارج القيم الأميركية الأساسية نفسها.لكن الولايات المتحدة الأميركية ليست عدواً بقضها وقضيضها، وكذلك القيم الأميركية المؤسِّسة في الدستور وتعديلاته وفي حقوق الإنسان والتركيبة القانونية المعقدة التي تضع الفرد والمواطنة في مركزها، ويُضاف إلى ذلك تجربة العمل والعلم ومعدلات التقدم الاقتصادي والاجتماعي غير المسبوقة في التاريخ.حين ندخل الحرب يكون من يُواجهنا عدواً، فلماذا يصرّ البعض منا بطريقة «القبضاي» أو القصص الشعبي عن أيام العرب على أن يطلب الولايات المتحدة للنزال؟ هل لأنه لا يكتفي إلاّ بمواجهة أكبر رأس، أم لأنه في حالة عجز وتشويش يصر، ويريد إبعاد الأنظار عن بؤرة اهتمامه المفترضة في مجتمعه وبلده؟من جهة أخرى، ألا يكفينا أن نواجه سياسات الإدارات الأميركية المحددة، وندخل في جدل صناعة هذه السياسات وموازينها كما يفعل الناس كلهم؟ ألم نتفق –مع كثيرين في الغرب- على أن جورج بوش قد أخطأ في «تذكيره الصارم» بأن أمته «في حالة حرب مع الفاشيين الإسلاميين»، فدخل بذلك مدخلاً خطيراً في اللعب بمفهوم «العدو»؟!لعلّ الأمر لا ينطبق على صورة العدو، تلك التي عرضها (سام كين) المفكّر الإنساني الأميركي بشكل جميل ومخيف في حديثه عن «وجوه العدو» «ارسم على وجه العدو ملامح الجشع والحقد واللامبالاة التي لا تجرؤ على التعبير عنها في دخيلتك أنت... واجعل ملامح الفردية العذبة ضائعة في كلّ وجه... وعندما يكتمل رسم أيقونتك عن العدو فسوف تكون قادراً على القتل من دون شعور بالذنب، وعلى الذبح من دون إحساس بالعار».* كاتب سوري