حديقة الإنسان: ثقافة الإرهاب

نشر في 12-10-2007
آخر تحديث 12-10-2007 | 00:00
 أحمد مطر

إذا كان الناس على دين ملوكهم، فإن ملك هذا الزمان، بلا منازع، هو الإعلام، وإن سلطته الجبارة الأقوى من أي سلطة، هي في أغلبها لسان صدق في فم الكذاب، إذا تأكد شرط امتلاكه للقوة!

يحكي الكاتب الأورغواني ادواردو غاليانو في (كتاب المعانقات) أنه قرأ، مرة، رواية يلتقي في أحد فصولها جدٌ مسن جداً أصغر أحفاده.

الجد الطاعن في السن هذا خرف تماماً (أفكاره هي لون الماء... كما تصفه الرواية)، وهو يبتسم ابتسامات لاهية تشبه ابتسامات حفيده المولود حديثاً.

الجد الأكبر سعيد لأنه فاقد الذاكرة، وحفيده الأصغر سعيد لأنه لم يمتلك بعد أي ذاكرة.

ويعلق غاليانو على ذلك قائلاً «إن هذه، كما أتصور، هي السعادة الكاملة... لكنني لا أرغب في أي نصيب منها!

لا يريد غاليانو نصيباً من هذه السعادة، لأنها في الواقع سعادة البلهاء، أي أنها، بعبارة أخرى، سعادة المواطنين الصالحين بالنسبة إلى الأنظمة الدكتاتورية، ومن الطبيعي بالنسبة الى رجل مثله، أمضى أعواماً عديدة من عمره بين المنافي والسجون، بسبب دفاعه عن الحرية، أن يرفض هذا الصلاح الفاسد، وان يستخدم مواهبه كلها من أجل تعريته، سواء أجاء بوجه أجنبي أم بوجه وطني.

هذا النوع من السعادة عنده، هو معادل الإرهاب الذي يتحول على يد السلطة المستبدة إلى (ثقافة) قائمة بذاتها، حيث تستخدم كل الوسائل الممكنة من أجل تجذيرها في بنية المجتمع، حتى تثمر، مع الأيام، يقينا عاماً بأنها جزء لا يتجزأ من كينونة هذا المجتمع.

ولعل هذا هو ما يفسر لنا اختلاط المشاعر الذي يدعو المضطهدين إلى الخوف من التحرر المفاجئ، أو يحمل الضحايا على البكاء، لدى زوال جلاديهم فجأة!

إن (ثقافة الإرهاب) تتحول، بعد تجذرها، إلى حلقة تبادلية فعالة، تنتج الطغيان من الأعلى، وتنتج الطغاة من الأسفل!

وفي استعراضه لبعض عناصر هذه الثقافة يقول غاليانو «إن الاستعمار الواضح يشوهك من دون أي ذريعة، إنه يمنعك من الكلام، يمنعك من الفعل، ويمنعك من الوجود».

اما الاستعمار الخفي، فهو يقنعك، بأي طريقة، بأن العبودية هي قدرك، وأن العجز هو طبيعتك، إنه يقنعك بأن من غير الممكن أن تنطق، من غير الممكن أن تفعل، ومن غير الممكن أن توجد!».

وماذا يكون الاستعمار الخفي سوى السلطة الوطنية الجائرة؟!

إن الكاتب لا يفاضل، هنا، بين جور وجور آخر، لكنه يصفع بشدة وجوه أولئك الذين يعتقدون أن الخضوع لسلطة القمع الداخلي هو البديل الوحيد والأهون من الوقوع فريسة للغزو الخارجي، في محاولة لإيقاظهم على حقيقة مريعة، هي أن الفرق بين الاستعمار الخارجي والاستعمار الداخلي، هو أنهم في الثاني يشاركون باقتناع تام، في حفلة إعدامهم!

ويسوق مثالاً على تلقيم الخنوع، وتحويل المواطن إلى مجرد رقم، من كتاب مدرسي كان يستعمل حتى وقت قريب في مدارس أورغواي «في ما يتعلق بالطفل المثالي، فتاة صغيرة تلعب بدميتين وتوبخهما لكي تظلا ساكنتين.

الطفلة نفسها تبدو مثل دمية جميلة جداً، وطيبة، ولا تزعج أي أحد.

إن صدى مثل هذا التأليف المدرسي المجرد يتردد في الواقع على شكل دمى حقيقية حية.

وذلك ما نجد مثاله في حكاية فتاة اسمها «راميونا كارابالو» كان أسيادها قد وهبوها إلى بعض الناس كهدية، عندما كانت بالكاد تتعلم المشي!

وفي عام 1950 إذ كانت تلك الفتاة لاتزال طفلة، اشتغلت عبدة في احد بيوت مونتيفيديو عاصمة أورغواي، حيث كانت تعمل كل شيء مقابل لا شيء.

وذات يوم جاءت جدتها لزيارتها، ولم تكن «راميونا» تعرفها أو تتذكرها. وكان على الجدة القادمة من الريف أن تعود إلى قريتها بسرعة، ولهذا فإنها شرعت، حال دخولها البيت، بإنجاز مهمتها، إذ حملت السوط وراحت تجلد حفيدتها جلداً مبرحاً، ثم انصرفت، تاركة الطفلة تنحب وتنزف.

جدة راميونا كانت تصرخ بها وهي تنهال عليها بالسوط

- «إنني لا أضربك بسبب ذنب ارتكبته... إنني أضربك بسبب ما سوف ترتكبينه!

هل ثمة فرق بين ما فعلته تلك الجدة وبين ما تفعله جميع السلطات في أوطاننا السعيدة، أو ما تفعله أميركا على مستوى العالم كله؟!

إن الفعالية التي تتحرك بها دائرة التبادل بين الطغيان وضحاياه، لا تقتصر على تلك النماذج الناتئة الواضحة، لأن ذلك التلقين المقدس يتناسل حتى في الأماكن التي يظنها المرء خارج هذه الدائرة.

يعدد غاليانو في هذا الاتجاه، طائفة من «المكرمات» الابتزاز، الإهانة، التهديد، الصفع، الضرب، الجلد، الغرفة المظلمة، «الدوش» المثلج، التجويع، الاتخام بالقوة، الحرمان من مغادرة البيت، الحرمان من قول ما تعتقد، الحرمان من فعل ما ترغب، الإذلال العلني... ثم يقرر بشكل صاعق أن تلك الأشياء كلها هي بعض مناهج العقاب التقليدية في الحياة الأسرية!

فمن أجل معاقبة التمرد، وتهذيب السلوك الخارج عن اللياقة، يعمد التقليد الأسري إلى تخليد (ثقافة الإرهاب) التي تهين المرأة، وتعوّد الطفل على الكذب، وتنشر حولها وباء الخوف.

ولهذا فإن (أندريس دومينغيز) أحد أصدقاء غاليانو لم يتعد الصواب حين قال له مرة «إن حقوق الانسان يجب ان تبدأ في البيت».

إن هذه البداية الصحيحة هي التي يمكن أن تحقق للإنسان حصانة ضد الأوبئة المدمرة كلها، وفي مقدمتها وسائل الإعلام التي لم يسبق لعصر أن ابتلي بسيطرتها التامة والواسعة مثل عصرنا المنكود.

فإذا كان الناس على دين ملوكهم، فإن ملك هذا الزمان، بلا منازع، هو الإعلام، وإن سلطته الجبارة الأقوى من أي سلطة، هي في أغلبها لسان صدق في فم الكذاب، إذا تأكد شرط امتلاكه للقوة!

ولعل الحكاية النموذجية التالية التي يرويها غاليانو كافية تماماً لإظهار صورة الدمار الهائل الذي يخلفه هذا الوباء.

يقول غاليانو إنه اطلّع لدى محام يُدعى «بيدرو ألغورتا» على ملف ضخم حول جريمة قتل امرأتين نفذت بالسكين في نهاية عام 1982 في احدى ضواحي مونتيفيديو.

المتهمة «ألما دي اغوستو» كانت قد اعترفت بجريمتها المزدوجة، وقد مرّ على إيداعها السجن أكثر من عام، وكان من الجلي أنها قد حُكم عليها بأن تتعفن هناك حتى آخر لحظة من حياتها.

وكما جرت العادة، فإن رجال الشرطة اغتصبوها وعذبوها، وبعد شهر من مواصلة ضربها بقسوة، استطاعوا أن ينتزعوا منها اعترافات عدّة!

لم تكن اعترافات «ألما» متطابقة، وبدت كما لو أنها ارتكبت الجريمة بطرائق كثيرة مختلفة، فقد كان هناك أشخاص مختلفون يظهرون في كل اعتراف مثل خيالات وهمية لا أسماء لها ولا عناوين.

وذلك لأن التعذيب كان من شأنه أن يحول أي شخص إلى مؤلف قصصي كثير الإنتاج. والأكثر من ذلك، فإن هذا المؤلف يقدم حكاياته برشاقة لاعب أولمبي، وبزينة مهرجان أمازوني، وببراعة مصارع ثيران محترف!

لكن الأكثر إثارة للدهشة كان غني التفاصيل. ففي كل اعتراف كانت «ألما» تصف بدقة بالغة الملابس، الإيماءات، الأجواء المحيطة، المواقع، والأشياء.

وموضع العجب في هذا كله هو أن «ألما» المسكينة... كانت عمياء!

الأدهى من ذلك أن جيران المتهمة الذين يعرفونها جيداً ويحبونها كثيراً، كانوا مقتنعين تماماً بأنها هي القاتلة.

سألهم المحامي

* لماذا ؟!

- لأن الصحف قالت ذلك.

- لكن الصحف تكذب!

- ولكن الراديو قال ذلك أيضا... والتلفزيون!

هل يحق للأغلبية العظمى منا أن ترفع إصبع اللوم في وجه أولئك الجيران؟

كلا... لأننا في الواقع مثلهم تماماً، خيوط مرتّبة بكل نعومة وتناسق في نسيج «ثقافة الإرهاب» الشاملة!

* شاعر عراقي

back to top