تناقضات برنامج حزب الإخوان المسلمين
يريد الإخوان تحولاً ديموقراطياً وتعدداً للسلطات ورقابة على الأجهزة التنفيذية، بيد أنهم في الوقت ذاته ما لبثوا يحلمون بدولة «كُليانية» تشمل أدوارها قطاعات المجتمع كلها من ضبط حركة السوق إلى توجيه الفن السينمائي والموسيقي. تثير مسودة برنامج حزب الإخوان المسلمين، وكنت قد أشرت إليها في عجالة في مقال الأسبوع الماضي وأفصلها اليوم، فعلياً العديد من الانطباعات المتناقضة؛ فمن جهة، يوثق البرنامج بإيجابية، وهو ينتظم في خمسة أبواب تتناول مبادئ وتوجهات الحزب متبوعة بشكل الدولة والنظام السياسي ثم الرؤى الإخوانية بشأن التعليم والتنمية والسياسة الاقتصادية وأخيراً العدالة الاجتماعية والنهضة الثقافية، لمساحة من التفصيلية في الطرح والاهتمام بالسياسات العامة غابت عن مجمل المقاربات الإخوانية المعلنة خلال السنوات القليلة الماضية، وفي القلب منها مبادرة للإصلاح في 2004 والبرنامج الانتخابي لمرشحي الإخوان في انتخابات 2005 التشريعية، الأمر الذي أضفى دوماً مشروعية ومصداقية على أحد أهم الانتقادات الكلاسيكية الموجهة للجماعة بكونها كياناً أيديولوجياً يرفع شعارات دينية فضفاضة ولا يبحث بجدية في إمكان تطبيقها الفعلي.بيد أن التفصيل الإخواني، من جهة أخرى، أظهر بجلاء أن مواقف الجماعة بشأن هوية حزبها السياسي المراد تأسيسه، أو في ما يتعلق بعدد من قضايا السياسة والمجتمع الرئيسية، ما لبثت على تأرجحها وضبابيتها، بل ربما تكون قد انتكست في سياق المواجهة الراهنة بين نظام «مبارك» والجماعة في اتجاه يضر بدور «الإخوان» في تعظيم فرص الدفع نحو إصلاح حقيقي في مصر. أولاً، اختار واضعو البرنامج عدم التطرق إلى جوهر وشكل الرابطة المستقبلية بين الجماعة والحزب وتجاهلوا بالتبعية أفكاراً نوقشت في الآونة الأخيرة داخل دوائر الإخوان –خصوصا الكتلة البرلمانية– حول أهمية تنظيم العلاقة بين المكون الديني الدعوي والمكون السياسي بالفصل الوظيفي بين الجماعة والحزب وتركيز نشاط الأخير على المشاركة السياسية تأسياً بتجارب الإسلاميين المؤطرين حزبياً في المغرب والأردن واليمن وغيرها. وبالتالي، فإن من يطالع برنامج حزب «الإخوان» لن يجد به معالجة واضحة لا لطبيعة الحزب ولا لتكوينه التنظيمي، بل إن البرنامج جاء خالياً من أي نص صريح على فتح باب عضوية الحزب أمام كل المصريين مسلمين وأقباطاً (وذلك أحد الشروط الأساسية لتكوين الأحزاب السياسية وفقاً للدستور وباختلاف عن جماعة «الإخوان» التي تقتصر عضويتها على المسلمين فقط).ثانياً، تمتلئ صفحات البرنامج –وهي 128 صفحة من القطع الكبير– بإشارات متواترة إلى محورية العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية كأحد الأهداف الكبرى للحزب والمتسقة، وفقاً للقراءة الإخوانية، مع المادة الثانية من الدستور المصري الناصة على أن «دين الدولة هو الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع». وبغض النظر عن أن الأهمية النسبية لمسألة تطبيق الشريعة بدت متراجعة في مبادرات الجماعة وبياناتها منذ 2004 وحل محلها جزئياً حديث عام المضمون عن المرجعية الإسلامية للمجتمع والسياسة والدولة في مصر، وأن توقعات العديد من المتابعين لتطور الإخوان كانت أن يسير برنامج الحزب في ذات الاتجاه، فإن التركيز العكسي لواضعي البرنامج على الشريعة دفع الجماعة إلى تبني أفكار تتعارض مع مبدأي مدنية الدولة والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين مواطني مصر المسلمين والأقباط. فدعوة الإخوان في برنامج حزبهم إلى استحداث هيئة منتخبة من كبار علماء الدين ينبغي على السلطة التشريعية ورئيس الجمهورية حين يمارس صلاحياته الدستورية الاستثنائية في التشريع استشارتها لضمان اتساق القوانين مع مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها، تشكل ولا شك انتكاسة حقيقية في فكر «الإخوان» تهمش تماماً الرؤية التوافقية المعتدلة التي صاغتها رموز قيادية بالجماعة خلال السنوات الماضية، والتي أكدت على أن المحكمة الدستورية العليا هي المخولة مراقبة اتساق القوانين مع مواد الدستور ونفت مراراً الحاجة إلى استحداث هيئة دينية تضطلع بهذه المهمة. أما جوهر التناقض مع مبدأ مواطنة المساواة الكاملة بين عنصري الأمة المصرية: المسلمين والأقباط، وهو ما استقر منذ زمن في الوعي الجماعي لجل القوى السياسية بل وتراضى عليه خطاب الإخوان العلني باستثناءات شديدة المحدودية، فيؤسَس له بحديث في باب البرنامج الثاني عن الدولة والنظام السياسي والواجبات الدينية المنوطة برأس السلطة التنفيذية وفقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية، متبوعاً بنص على استبعاد غير المسلم من منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. تفرِّغ إذاً الدعوة إلى إنشاء هيئة علماء الدين وكذلك الاستثناء الوارد بشأن الحقوق السياسية لغير المسلمين الإحالات المتواترة ببرنامج حزب الإخوان في مواضع أخرى إلى مدنية الدولة والمساواة التامة بين المواطنين من المضمون، بل تستحيل معها الصورة السياسية للجماعة أقرب إلى حركة حبلى بالتناقضات وبغياب الوضوح الاستراتيجي عن توجهاتها.ثالثاً، يدلل برنامج حزب الإخوان، وخصوصا حين النظر إلى مقاربته لقضايا السياسة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والنهضة الثقافية، على استمرار نزوع الجماعة نحو نموذج الدولة القوية المتدخلة في تسيير جل شؤون المجتمع دونما تدبر فعلي في مدى ملاءمة مثل هذا الطرح للواقع الراهن المستند إلى اقتصاديات السوق، أو في تداعياته المحتملة على ملفي الإصلاح والتحول الديموقراطي، وكلاهما يرتبط في الحالة المصرية بتحجيم الدولة ونخبتها السياسية-الأمنية والتوسيع المطرد لمساحات فعل القوى المدنية وغير الحكومية. يريد الإخوان تحولاً ديموقراطياً وتعدداً للسلطات ورقابة على الأجهزة التنفيذية، إلا أنهم وفي الوقت ذاته ما لبثوا يحلمون بدولة «كُليانية» تشمل أدوارها قطاعات المجتمع كلها من ضبط حركة السوق إلى توجيه الفن السينمائي والموسيقي.وبعيداً عن الانطلاق من برنامج حزب جماعة الإخوان المسلمين لاستشفاف محفوف بالمخاطر حول تغير توازنات الداخل لمصلحة من يُسمَّون متشددي الإخوان في مقابل معتدليهم، تتمثل الدلالة السياسية الأهم لتراجعات وتأرجح البرنامج في التأكيد مجدداً على استحالة التطور الإيجابي لحركات المعارضة الدينية وانفتاحها على مبادئ وآليات الفعل الديموقراطي والتحديات التي تطرحها هذه الأخيرة في ظل مواجهة عاصفة مع نخبة حاكمة قمعية، وفي ظل سياق تقوِّض تقلباته إمكانات المشاركة السياسية المستقرة لهذه الحركات. هنا تصبح مقارنة وضعية الإخوان في مصر بحال الإسلاميين في مجتمعات المشاركة المستقرة والقمع المحدود كالمغرب والكويت شديدة الدلالة لمعرفة الحدود الفاصلة بين المسؤولية الذاتية ومسؤولية نخب الحكم. * كبير باحثين بمؤسسة «كارنيغي للسلام الدولي» واشنطن.