لغـة الخطاب الديني

نشر في 07-04-2008
آخر تحديث 07-04-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

اللغة الدينية ليست منغلقة على ذاتها تدل على معان خاصة أو تشير إلى عالم خاص، بل هي لغة منفتحة على غيرها، تحيل إلى عالم الدلالات، وتشير إلى العالم الخارجي. يحيل عالم الغيب إلى عالم الشهادة، قياسا للغائب على الشاهد، وتحيل مشاهد القيامة إلى عالم الصور الفنية الذي يجمع بين الحس والعقل والخيال.

1 - هل لغة الخطاب الديني لغة إلهية أم لغة إنسانية؟ لغة الخطاب الديني لغة إنسانية خالصة من اختيار الداعية والواعظ والخطيب، من ثقافته وبيئته، بل إن لغة القرآن والحديث نفسها لغة إنسانية، فقد تكلم الله للبشر بلغتهم وألفاظهم ومفاهيمهم وتصوراتهم وفي بيئتهم الثقافية ولحظتهم التاريخية، في زمان ومكان معينين، ولقوم بعينهم. كما أنه مدون بلغة في اللوح المحفوظ. لا نعلمها، ولم نرها، ولم نستمع إليها. أخذ منها «جبريل» بلغتها الأصلية أو حولها إلى لغة عربية بعد أن كانت عبرية أو آرامية أو لغات أخرى لأنبياء آخرين، إذ لم يقص القرآن إلا عن أنبياء سمع عنهم العرب من قبل. ولم يقص القرآن عن أنبياء في فارس أو في الهند أو في الصين «وما من أمة إلا خلا فيها نذير»، «منهم من قصصنا عليك، ومنهم من لم نقصص»، وما أرسل رسول إلا بلغة قومه. بل لا يضير القرآن استعمال كلام البشر ويضمنه في الخطاب الإلهي مثل «قال من يحيي العظام وهي رميم» وهو سؤال المغيرة بن شعبة للرسول. ومثل «تبت يدا أبي لهب وتب» وهو رد على سب امرأة أبي لهب للرسول «تبت يدك يا محمد». وكثير من آيات الأحكام إنما كانت إجابة عن أسئلة الواقع عن الأنفال، والمحيض، والأهلة، والعفو، والروح.

الخطاب الإلهي قصد من الله إلى الإنسان بلغة الإنسان وبمقاصده وحقوقه. هو خطاب «علماني» لا يتحدث فيه الله عن نفسه بل عن مُحاورِه ومتلقي خطابه وهو الإنسان. وكل لفظ شرعي له ثلاثة معان: اشتقاقي في أصل اللغة، وعرفي في أصل الاستعمال، واصطلاحي في أصل الشرع. ولا يفهم الاصطلاحي إلا بالاشتقاقي والعرفي التداولي.

2 - هل اللغة الدينية ثابتة عبر العصور أم متغيرة بتغير العصور؟ لا توجد لغة واحدة للخطاب الديني، ثابتة عبر العصور. إذ تتغير اللغة بتغير العصور والثقافات والبيئات المجاورة. كما تتعدد اللغة بتعدد العلوم، فهناك لغة علم العقائد مثل السمعيات وهي الغيبيات مثل عذاب القبر ونعيمه، حساب الملكين، وكل ألفاظ الأخرويات من صراط وميزان وجنة ونار وحوض وشفاعة وملائكة وعرش. وهي التي يكثر تداولها في الخطاب الديني الإعلامي، وقد كان لا يضير عمر أن يفهم بعضا منها مثل «أبَّا» في «وفاكهة وأبَّا». وكان يعلو بالدّرة من يسأل عنها أكثر من أنها نوع من الفاكهة طبقا للسياق. وكان أيضا لا يسأل عن «والنازعات غرقا»، ومثلها من الآيات التي الغرض منها التصوير الفني، وتحريك الوجدان، وإثارة الخيال للإحساس بواقعة البعث والنشور وطبقا لموسيقى القرآن. وهناك لغة أخرى وافدة من البيئات الثقافية المجاورة خاصة اليونانية مثل الجوهر والعرض، والزمان والمكان، والعلة والمعلول، والواحد والكثير، والذات والصفات، والمقولات العشر، والوجود والماهية. وقد تغيرت إلى لغة حديثة مثل المطلق، واللانهائي، والتقدم، والحرية، والتاريخ، والشعب، والبرلمان، ومعظم الأيديولوجيات السياسية مثل: الليبرالية، والديموقراطية، والاشتراكية، والماركسية، والشيوعية، والنازية، والفاشية، والفوضوية، والنظم الشمولية، والدولة، والإعلام، والأحزاب السياسية. وهي الألفاظ المفضلة عند العلماني التحديثي. وإزاء تمسك التقليدي بلغة القدماء تكون اللغة أحد أسباب الاستقطاب بين الخطابين السلفي والعلماني.

3 - هل اللغة قمعية فرضية وجوبية أم طوعية حرة تلقائية؟ يستعمل الدعاة ألفاظ الخطاب الذي يوحي بالقمع والفرض والوجوب مثل: الواجب، الفرض، الحرام، المحظور، الأمر، النهي. وهو الخطاب الذي يدعو إلى الطاعة والقبول وعدم الاعتراض. الشرع تكليف، وأحكام الشرع هي أحكام التكليف، والحسن والقبح مفروضان على العقل من الشرع. لا ينبعان من طبيعة العقل وبراءة الفطرة. فالإنسان مجرد متلقٍّ، ينفذ الأوامر، باسم الإيمان. فيتربى على الطاعة. وما أسهل بعد ذلك أن تتحول الطاعة الدينية إلى طاعة سياسية، وأن يتحول الأمر الديني إلى أمر سياسي، وأن يتحول الله إلى دولة كما عبر عن ذلك نجيب محفوظ على لسان إحدى شخصياته الروائية «لا تسبوا الله فإن الله هو الدولة»، تنويعا على حديث «لا تسبوا الله فإن الله هو الدهر». وقد صرح الغزالي من قبل أن نظام الملك الذي أسس له المدرسة النظامية هو الذي أفرز له خطابه الأشعري السلطوي في «الاقتصاد في الاعتقاد» قائلا: «وهذا ما أعانني السلطان عليه». في حين توجد لغة أخرى أكثر تلقائية ومعبرة عن حرية الاختيار وعن العلة الغائية وليس العلة الفاعلة مثل «مقاصد الشريعة» أي أهدافها العليا التي عبر عنها القدماء باسم «الضروريات». وهي أقرب إلى الحقوق بلغة المعاصرين: الحفاظ على الحياة، والعقل، والدين، والعرض، والمال. وهناك المكروه والمندوب اللذان يدلان على حرية الاختيار في الأحكام الشرعية، لا تفعل إن شئت، وافعل إن أحببت. وهناك رفع الحرج، وعدم جواز تكليف ما لا يطاق، ورفع المشقة، والرخص، والضرورات التي تبيح المحظورات. ومازال لفظ «العبد» في الفقه يستعمل بالرغم من انتهاء الرق. و«الحر» في مقابل العبد في علاقة ملكية وليست علاقة وجود. ومازال لفظ «العبد» يستعمل في مقابل «الرب». ومن منا يريد أن يكون عبدا؟ في حين أن لفظ «الإنسان» أفضل في مقابل لفظ «الإله».

4 - هل اللغة الدينية منغلقة على نفسها تدل على عالم خاص أم منفتحة على غيرها، تشير إلى عالم الحياة؟ اللغة الدينية ليست منغلقة على ذاتها تدل على معان خاصة أو تشير إلى عالم خاص. بل هي لغة منفتحة على غيرها، تحيل إلى عالم الدلالات، وتشير إلى العالم الخارجي. يحيل عالم الغيب إلى عالم الشهادة، قياسا للغائب على الشاهد، وتحيل مشاهد القيامة إلى عالم الصور الفنية الذي يجمع بين الحس والعقل والخيال، وتحيل السمعيات كلها أيضا إلى عالم الخيال من أجل الإيحاء والإقناع عن طريق الجمال، وليس عن طريق الاستدلال. بل إن العقائد أيضا ليست عالما مغلقا مثل التوحيد والعدل بل هي بواعث على السلوك وبنية للمجتمع وحركة التاريخ. فالتوحيد ليس قضية عددية، أن الله واحد، بل هي عملية توحيد بين الثنائيات على عكس الديانات الثنوية كالمانوية والزرادشتية، توحيد بين قوى الذات الداخلية، الفكر والوجدان، وقواها الخارجية، القول والفعل، وتوحيد بين أعضاء الأسرة بالرغم من توزيع الأعباء بين أفرادها، وتوحيد بين الطبقات الاجتماعية بحيث تذوب الفوارق بين الطبقات، وتوحيد بين الشعوب والأقوام بحيث لا يعلو بعضها فوق بعض. والثواب والعقاب، والجنة والنار كلها بواعث على العمل الصالح. والميزان رمزا للعدل. والاستحقاق أن الجزاء من جنس الأعمال.

* كاتب مصري

back to top