تركيا تدخل حلبة الشرق الأوسط من جديد

نشر في 28-02-2008
آخر تحديث 28-02-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

تعود تركيا الآن لتطل من جديد على الشرق الأوسط بعد طول تيه في أروقة الاتحاد الأوروبي ودهاليز جوارها الجغرافي في البلقان والقوقاز، ليس لتتفرج على ما يحدث في العراق أو حتى لتطارد عناصر حزب العمال الكردستاني فحسب، بل لتشارك بفعالية في رسم توازنات جديدة للقوى في العراق وكامل الشرق الأوسط.

عبرت القوات البرية التركية الحدود مع العراق الأسبوع الماضي لتتوج حملتها العسكرية المتصاعدة منذ شهر ديسمبر الماضي ضد عناصر ومواقع حزب العمال الكردستاني. ويختلف العبور التركي الحالي إلى شمال العراق عن المرات الثلاثين السابقة التي تخطت فيها تركيا الحدود العراقية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات لمطاردة عناصر «حزب العمال الكردستاني»، بناء على اتفاق وقعته في ثمانينيات القرن الماضي مع النظام العراقي السابق، بسبب كونه العبور الأول في ظل الشروط التركية والإقليمية والدولية الجديدة. تدخل تركيا الآن حلبة الشرق الأوسط من جديد، ففي اللحظة التي عبرت فيها القوات التركية الأسبوع الماضي شمال العراق تغيرت الموازين في العراق وما حول العراق، وبشكل يتخطى الهدف المعلن بملاحقة عناصر «حزب العمال الكردستاني».

امتنع الرئيس التركي عبدالله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان عن تحديد إطار زمني للعمليات، بل أكدا أنها ستستمر «حتى ننتصر»، وبالتوازي مع ذلك أبلغ غول نظيره العراقي جلال طالباني بموعد العمليات قبل ساعات قليلة من تنفيذها في خطوة تستهدف تهدئة الخواطر الكردية والعراقية. كما أعلنت أنقره أنها سترسل موفداً خاصاً إلى بغداد للتباحث مع الحكومة العراقية في تفاصيل الأزمة، ولكن التوازنات على الأرض لها حسابات أخرى غير اللباقة الدبلوماسية، فالاجتياح يظل اجتياحاً مهما غلف بعبارات منمقة من رئيس وزراء أو موفد خاص. كما أن طريقة انتشار القوات التركية، ونوعية عتادها الذي تغلب عليه الدبابات والعربات المدرعة، والمرابطة على الحدود منذ شهور تؤشر بأن التلويح التركي هنا يتجاوز أداء مهمة سريعة والعودة بعد تنفيذها إلى ما وراء الحدود (راجع مقالنا هنا في 18 أكتوبر 2007).

أخفقت تركيا مرتين في تأدية دور إقليمي منذ انتهاء الحرب الباردة، بسبب تركيبة التوازنات الدولية. الفرصة الأولى واتت تركيا عندما تغيرت الصورة الاستراتيجية في جوار تركيا الأوروبي البلقاني والأوراسي القوقازي في التسعينيات، ومثال ذلك يوغوسلافيا السابقة واحتدام الصراع العرقي والطائفي فيها ومن ثم تفككها إلى دويلات، حيث لم تستطع تركيا التي تملك مصالح تاريخية هناك مساعدة البوسنيين، بسبب الرفض الأوروبي القاطع لدور تركي هناك. أما الموضع الثاني الذي تغيرت فيه الصورة الاستراتيجية في جوار تركيا فكان القوقاز، بعد انزياح الغطاء السوفييتي عنه. ولم تستطع تركيا أيضاً تفعيل دور لها على الرغم من الوشائج التاريخية والعرقية التي تربطها بالقوقاز، ومرد ذلك أن روسيا وقفت حائلاً دون ذلك بالترافق مع ميل غربي واضح لضرورة عدم استفزاز روسيا في البلقان، مع انتزاع تنازلات أخرى منها في شرق أوروبا. وهكذا خرجت تركيا خالية الوفاض من التغييرات العميقة التي حدثت في جوارها البلقاني والقوقازي، بسبب ترجيح واشنطن لتحالفاتها مع الاتحاد الأوروبي على مصالحها مع تركيا.

كان واضحاً منذ الصيف الماضي أن حضور القوات التركية في العراق سيخلق نتيجتين: الأولى معادلة النفوذ الإيراني في العراق عبر إدخال قوة إقليمية مكافئة لها إلى مسرح الصراع، والثانية المتلازمة مع الأولى ستتمثل في تدمير الكيان الكردي شبه المستقل في شمال العراق. وهو الأمر الذي توقعناه قبل شهور مضت (راجع مقالنا هنا في 8 أغسطس 2007)، ومرد ذلك أن المفاضلة بين الفوائد المتولدة عن أي من التحالفين الأميركي-الكردي في العراق، والأميركي-التركي في كامل المنطقة تشي بأرجحية التحالف الأميركي-التركي. وإذ كانت تركيا قاسماً مشتركاً في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، فإن معاهدة سايكس-بيكو التي قسمت تركة الدولة العثمانية بين لندن وباريس؛ قد حددت قبل ذلك مصائر العرب والأكراد ومناطق نفوذ القوى العظمى.

أنتجت الحرب العالمية الثانية توازنات قوى معينة على الصعيد الدولي، تلك التي حتمت بدورها حرباً باردة، بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق ومعسكر الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، انضوت بموجبها تركيا وأغلبية الدول العربية في معسكر الغرب. تعود تركيا الآن لتطل من جديد على الشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب الباردة وبعد طول تيه في أروقة الاتحاد الأوروبي ودهاليز جوارها الجغرافي في البلقان والقوقاز، ليس لتتفرج على ما يحدث في العراق أو حتى لتطارد عناصر حزب العمال الكردستاني فحسب، بل لتشارك بفعالية في رسم توازنات جديدة للقوى في العراق وكامل الشرق الأوسط. بكثير من الاطمئنان يمكن القول إن الخلفية التاريخية والسياق الإقليمي يشكلان الإطار الصحيح لفهم دوافع وأبعاد العملية التركية الدائرة الآن في شمال العراق.

* كاتب وباحث مصري

back to top