مدَّعو المعرفة - الغرب وقراءة السياسة العربية
دعونا لا ننشغل بنقاشات الغرب بشأن العلاقة بين الإسلام والديموقراطية، التي تتسم بالزيف في أحيان كثيرة، وعلينا إذاً أن نتركها لمدَّعي المعرفة في الغرب الأميركي والأوروبي الباحثين باستمرار عن أسباب اختلاف العرب عن غيرهم من شعوب الأرض، وعن قراءات تبسيطية لا يستدعي إنتاجها من العلم ورجاحة التفكير الكثير.هناك إشكالية زائفة تشغل مساحة واسعة في النقاشات الغربية اليوم عن العالم العربي، ألا وهي جوهر العلاقة بين الإسلام والديموقراطية وتداعياتها على مدى جاهزية مجتمعاتنا للتحول الديموقراطي. مثل هذه التساؤلات قد تبدو للوهلة الأولى مشروعة، إلا أنها تخفي في التحليل الأخير سلسلة من الافتراضات الكامنة البعيدة كل البعد عن روح النظر العلمي، بل وعن الفهم العقلاني للواقع السياسي والظواهر المجتمعية.تُختزل الثقافة العربية في مكون وحيد هو الدين الإسلامي، ثم تُرسم صورة «استاتيكية» للعلاقة بين الثقافة المختزلة في الدين وفرص الديموقراطية تنهض على حتمية التوافق بينهما كمحدد أساسي لبدء الإصلاح، وتُساق بالتبعية المقولات المؤكدة على وجود أو غياب مثل هذا التوافق في عالمنا وكيفية دعمه في الحالة الأولى أو خلقه في الحالة الثانية. الفاسد هنا هو تجاهل كون قابلية ثقافة ما للديموقراطية إنما تحقق في الغرب وخارجه في سياق عملية التحول الديموقراطي ذاتها، ومن العبث التعامل مع المجتمعات العربية باعتبارها تمثل استثناءات على هذه القاعدة التاريخية، لا يمكن فهم هيمنة قيم التعددية، وقبول الرأي الآخر والتسامح واحترام حقوق الإنسان على أنها شروط استباقية للديموقراطية، بل هي بمنزلة القواعد التوافقية لعملية التحول الديموقراطي التي لا تستقر إلا بتقدمها المطرد. تتواتر من جهة أخرى على هامش القراءات الغربية لإشكالية العلاقة بين الإسلام والديموقراطية معالجات متنوعة لوضعية الأحزاب والقوى السياسية ذات المرجعيات الدينية يتأرجح جلها بين موقفين: موقف إقصائي رافض لإضفاء شرعية على وجود حركات من شاكلة جماعات وتنظيمات الاخوان المسلمين في المجال السياسي والمجتمع المدني باعتبار أنها تخلط المرتكزات المدنية للمساحة العامة كالمواطنة وحقوق الإنسان والحريات الفردية برؤى غير تعددية تدعي الصفة الدينية؛ وموقف ثانٍ يرى في إدماج هذه الحركات في الحياة السياسية، حين تخليها عن العنف والتزامها النهج السلمي ومبدأ التداول الديموقراطي للسلطة، مفتاحاً للوصول إلى توافق حقيقي بشأن الشكل الأمثل لإدارة ترابطات السياسة والدولة والمجتمع في البلدان العربية، وفي حين تستدعي خبرة الجمهورية الإسلامية في إيران منذ 1979 في سياق الموقف الأول، يستشهد دعاة الرؤية الاندماجية بصورة منتظمة بتجارب الأحزاب الديموقراطية المسيحية الفاعلة في عدد من الدول الأوروبية الغربية مثل ألمانيا وهولندا والنمسا، وكذلك بالحالة التركية في ظل حكومة رجب أردوغان كنموذج مثالي لدخول القوى الدينية معترك الحياة السياسية.المعضلة هنا أن مثل هذه المقاربات ذات طابع أيديولوجي وبعيدة عن الواقعية، فمن الصعب تصور مصداقية تجاهل قوى متجذرة في الواقع بادعاء عدم الرضاء عن خطابها ومرجعياتها الكلية، أو عدم استيفائها شروط الوجود الديموقراطي في سياقات سياسية تغيب عنها الصفة الأخيرة فعلاً، ومن غير المنطقي أيضاً مقارنة حزب مثل «الاتحاد المسيحي الديموقراطي» في ألمانيا أو حتى حزب «العدالة والتنمية» التركي بحركات إسلامية في عالمنا، فالسياقات التاريخية تتفاوت بوضوح. البون شاسع بين مرجعية دينية أضحت بمنزلة مجرد موجه قيمي عام للمجتمع يغيب عنه الطابع الاطلاقي- الإلزامي؛ كما في ألمانيا وخبرة تركيا في الاستبعاد العنيف للدين على مدار حقب طويلة قبل أن يسمح له بالعودة إلى المجال العام في ظل مؤسسة عسكرية ضامنة لعلمانية الدولة، وبين جُل النظم العربية التي لا تسمح لمعارضيها، إسلاميين أو غيرهم، بممارسة السياسة بمضامينها التعددية الحقيقية.مثل هذه النقاشات حول العلاقة بين الإسلام والديموقراطية غير مجدية ولا تذهب بالغرب بعيداً حين النظر في معوقات التحول الديموقراطي في العالم العربي، دعونا إذاً لا ننشغل نحن بها ونتركها لمدعي المعرفة في الغرب الأميركي والأوروبي الباحثين باستمرار عن أسباب اختلاف العرب عن غيرهم من شعوب الأرض وعن قراءات تبسيطية لا يستدعي إنتاجها من العلم ورجاحة التفكير الكثير.* كبير باحثين بـ«مؤسسة كارنيجي لأبحاث السلام»، واشنطن