الإسلام العلمي

نشر في 17-06-2007 | 00:00
آخر تحديث 17-06-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي الواقعية أو العلمية أو الطبيعية أو البرجماتية ليست قصراً على الغرب وحده، بل هي نزعة فى كل حضارة شرقية، صينية أو هندية أو مصرية قديمة أو بابلية أو آشورية أو كنعانية.

الإسلام «العلمي» هو أحد مسميات اليسار الإسلامي في مقابل الخرافي والأسطوري. ولا يعني العلم هنا العلم الطبيعي المتغير طبقا لتصورات العلم وكيفية تطبيقها فى التقنية الحديثة والمتجددة باستمرار. إنما يعني الإسلام الطبيعي الذى يتفق مع معطيات الطبيعة العامة وليست الميتافيزيقا المغرقة في النظريات والمجردات والتأملات باسم الدين. وهو أيضا الإسلام الواقعي المتفق مع مقتضيات الواقع. الإسلام الممكن وليس المستحيل كما قال محمد عبده من قبل في «رسالة التوحيد» إن الوحي ممكن الوقوع. لذلك انتشر الإسلام بسرعة لم يشهد التاريخ بمثلها لواقعيته وسهولته وطبيعيته. ولفظ «الواقع» لفظ قرآني. فالدين واقع (وإن هذا الدين لواقع). والعذاب واقع (إن عذاب ربك لواقع). والوعد واقع (وإنما توعدون به لواقع). وإذا كان الوعد واقعا, فالوعد صادق (إنما توعدون لصادق). وهو الإسلام الذى يبدأ بعالم الشهادة. ويعتمد على الحس والمشاهدة وشهادة الحواس الذي اعتمدها القرآن فى البرهان, العين للبصر, والآذان للسمع ضد الأوهام والخيالات, وبعيداً عن الغيبيات السمعية التي تخرج عن دائرة البرهان العقلى. وهو الجانب الذي تضخم فى العقود الأخيرة لصعوبة رؤية الواقع والشهادة عليه, واستسهال الإغراق في الغيب الذي لا يمكن السيطرة عليه. وهو أيضا الإسلام الذي يقوم على المضمون وليس على الشكل «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». فالشعائر مضمون قبل أن تكون صورة. الشهادة تحرر وجداني بفعلي النفى والإثبات فى «لا اله إلا الله» قبل أن تكون تمتمة بالشفتين. والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر قبل أن تكون حركات وسكنات. والصيام إحساس بالفقراء قبل أن يكون إمساكا عن الطعام والشراب في وقت معلوم. والزكاة مشاركة الفقراء في أموال الأغنياء قبل أن تكون ضريبة كمية, والحج توجه القلب نحو هدف واحد قبل أن يكون شعائر, سعياً وإفاضة وطوافاً وهدياً ورمياً بالجمرات. ولو أن لفظ «مادي» كان له معنى تداولياً إيجابياً لأمكن استعماله. حينئذ يعني الإسلام المادي الاهتمام بحياة الناس وسعادتهم في الدنيا، بأرزاقهم ومعاشهم وتعليمهم وصحتهم وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية في مقابل الإسلام الكهنوتى المنغلق الذى حول الدين إلى بضاعة وتجارة وتكسب ورزق ومعاش خاصة فى القنوات الفضائية.

وإذا كان اليسار الإسلامي إسلاماً عقلانياً، فمن الطبيعي أن يكون إسلاما طبيعيا. فالعقل والطبيعة هما الركيزتان الرئيسيتان للوحي. فالنص له دعاماتان. الأولى، في العقل والفكر والنظر والبرهان. والثاني، فيي الطبيعة والواقع وحياة الناس. الأول فى السماء, والثانى في الأرض. وألا يتحول الوحى إلى مجرد عقائد وشعائر مغلقة على نفسها. بلا دليل يؤيدها أو واقع يتحقق فيه.

وقد ظهر هذا البعد في النص نفسه في أسباب النزول. كل حكم له سبب فى الواقع. الواقع يسأل، والوحي يجيب. (ويسألونك عن الأهلة)، (ويسألونك عن المحيض)، (ويسألونك عن الأنفال)، (ويسألونك عن الخمر), ويجيب الوحى (قل). وكل الإجابات تدل على جلب المنفعة ودفع الضرر. السؤال نظري، والإجابة عملية. وكما تعني أسباب النزول أولوية الواقع على النص فإن «الناسخ والمنسوخ» يعني أولوية الزمان على الحكم، وتطور الزمان على ثبات الحكم. فالمكان والزمان بعدان للواقع. ولا يوجد وحي إلا فى الزمان والمكان. يتكيف الوحي طبقا لتطور الزمان والتدريج فى التغير الاجتماعي.

وقد ظهر هذا الجانب في كل العلوم الإسلامية القديمة. ظهر في علم العقائد، وهو علم أصول الدين أو علم التوحيد في جعل التفكير في الطبيعة سابقاً على التفكير فيما بعد الطبيعة. ولا يمكن التفكير في الذات والصفات والأفعال إلا بعد إثباتها عن طريق الجوهر والأعراض. ولا فرق بين صفات الإنسان الكامل والإنسان المتعين. وإذا كان التوحيد خاصا بالله فإن العدل خاص بالإنسان. وإذا شمل التوحيد الذات والصفات فإن العدل يتضمن العقل والحرية. والإيمان والعمل والإقرار ظهور للتوحيد في سلوك الإنسان. والإمامة تحقق التوحيد في المجتمع والدولة والتاريخ.

وفي علوم الحكمة، وهي العلوم الفلسفية، الطبيعيات أيضا سابقة على الإلهيات، كما سبق المنطق أي العقل الطبيعيات. فدون النظر إلى الطبيعة لا يمكن الدخول فيما بعد الطبيعة. العالم دليل على الله، وليس الله دليلاً على العالم. والفكر العلمي فكر استقرائي صاعد، وليس فكراً استنباطياً نازلاً، من الجزئي إلى الكلي، وهو أمر مستغرب, وليس من الكلي إلى الجزئي، كما هو شائع. بل إن علوم التصوف أيضا أكدت على أهمية الواقع والطبيعة فيما سمته الوجود. فالحق لا يفهم بعيداً عن الخلق. ويروون الحديث القدسي «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني البعض» سمى الحلاج ذلك الحلول أو الاتحاد. والبعض الآخر مثل ابن الفارض سماه وحدة الشهود، ألا يرى في العالم إلا الله. وفريق ثالث وعلى رأسهم ابن عربي سماه وحدة الوجود. فالإنسان في العالم. والفناء بقاء.

وقد ظهر الواقع على خير ما يكون في التعليل في علم أصول الفقه. فكل الأحكام الشرعية معللة. والعلة هي سبب التحليل أو التحريم. وهي العلة المادية، درء المفاسد وجلب المصالح. وهى لا تعرف إلا بالمناهج التجريبية التى سماها القدماء «السبر والتقسيم». فالسكر الماديي علة تحريم الخمر. وعدم اختلاط الأنساب علة تحريم الزنا. وقد سمى بعض الأصوليون المصدر الرابع من مصادر التشريع إما دليل العقل وإما القياس وإما الاجتهاد، تأكيداً على علة الأصل المستنبطة من النص أو الاستصلاح والاستصحاب والمصالح المرسلة تأكيداً على علة الفرع المستقراة من الأجزاء. والرخص فى مقابل العزائم، والضرورات تبيح المحظورات، والعادة محكمة، كل ذلك كاشف عن وجود الواقع في طرق الاستدلال واستنباط الأحكام.

العلم هو العلم النافع، ما يمس حياة الناس «أعوذ بالله من علم لا ينفع». وهو العلم الذى يبقى ويؤثر فى الأرض (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

الواقعية أو العلمية أو الطبيعية أو البرجماتية ليست قصراً على الغرب وحده، بل هى نزعة فى كل حضارة شرقية، صينية أو هندية أو مصرية قديمة أو بابلية أو آشورية أو كنعانية. «في البدء كانت الكلمة»، ولكن الكلمة هي الفعل (كن فيكون). وقد أوضح ذلك جوته بقوله «في البداية كان الفعل»، وهو ما أبرزه القرآن أيضا في عدة آيات (وقل اعملوا)، (يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل). وقد استولى محمد الفاتح على القسطنطينية والنصارى كانوا منهمكين في مناقشة طبيعة السيد المسيح إلهاً أم إنساناً. وعندما سئل الرسول متى الساعة أجاب «فاستعد لها».

كاتب ومفكر مصري

back to top