أيام عبدالناصر

نشر في 21-09-2007
آخر تحديث 21-09-2007 | 00:00
بعد هزيمة يونيو، توارى عبدالناصر الأسطوري وبقي الإنسان الدكتاتور والمسؤول عن الهزيمة... فشاركت في أحداث ومظاهرات 1968 الجامعية ضد نظامه، وانتقلت إلى صفوف معارضيه، لكنني لم أكرهه، ولم اعتبره شيطاناً يستحق الرجم كلما أطل يونيو أو يوليو، وكلما حلت ذكرى وفاته أو ميلاده. فمثل محمد علي كان عبدالناصر حالما كبيرا وبناء.
 محمد سليمان كنت طفلاً في مدرسة القرية، مغرماً باللعب وغير متحمس للدروس والمدرسين ومعجباً فقط بالعم سيد كبير الفراشين الذي كان مسؤولاً عن جرس المدرسة. وكنت أراه دائما جالسا فوق دكة عالية تحت الجرس، ممسكا بساعة جيبه الكبيرة، ومستعدا لشد الحبل وإنهاء اليوم الدراسي وإرسالنا بالتالي إلى الحقول والمنازل.

العم سيد بجرسه وجلبابه وساعة جيبه ودكته، التي تشبه العرش، كان يبدو لي في ذلك الوقت أهم وأخطر موظف في المدرسة، لذلك اتخذته قدوة لي وقررت أن أجتهد لكي أصبح فراشا عظيما مثله،

وعندما أبلغت والدي بهذه الرغبة تلقيت منه صفعة كبيرة أسقطتني أرضا، وسيلا من الشتائم والكلام الذي لم أفهمه في ذلك الوقت، وما أذكر منه «عبد الناصر يرسل الخفراء والفراشين إلى الحقول والمنازل لجرهم إلى المدارس... والبليد يريد فقط أن يصبح فراشاً»... هكذا اقتحم الرئيس جمال عبدالناصر عالمي الصغير قبل أكثر من خمسين سنة وانزرع فيه بحسناته وسيئاته.

في ذلك الوقت كانت المدارس الابتدائية يطلق عليها «المدارس الإلزامية»، لأن الدولة كانت تلزم أولياء أمور الأطفال الذين بلغوا السادسة من عمرهم بارسال أبنائهم إلى المدارس، وترسل الخفراء والفراشين إلى الحقول والمنازل لإبلاغ أولياء الأمور وتهديدهم... إذا لزم الأمر.

كان والدي مزارعا بسيطا، شبه أمي، يقرأ بصعوبة ولا يكتب، وكان واحداً من «دراويش» عبد الناصر يتابع خطبه وتصريحاته وجولاته في الداخل والخارج... ويستأجر العمال الزراعيين لكي يتفرغ للجلوس في المقهى قرب المذياع الوحيد في القرية لمتابعة الأحداث والأخبار. وبسبب حبه وتقديره لعبدالناصر، كان دائماً يقول «عبدالناصر لن يرضى بذلك»... عندما يحدثه أحدهم عن ظلم ما وقع عليه، ثم ينصح محدثه بإرسال خطاب إلى قصر القبة بالقاهرة لإبلاغ عبدالناصر بكل شيء لكي يأمر بإنصاف المظلوم.

وحدث بعد التحاقي بكلية الصيدلة جامعة القاهرة ونجاحي في العام الدراسي الأول، أن قررت الانتقال من منزل أقاربي إلى المدينة الجامعية، لكن المسؤولين اعتذروا لأن المدينة لا تقبل سوى الطلاب الجدد والطلاب المقيمين فيها منذ البداية، فشكوتهم إلى مدير الجامعة... ثم إلى وزير التعليم العالي دون جدوى، وأخيرا تذكرت نصائح والدي فأرسلت خطاباً إلى عبدالناصر طالباً تدخله، ولم تخب النصائح وانتقلت إلى المدينة الجامعية.

بعد هزيمة يونيو، توارى عبدالناصر الأسطوري وبقي الإنسان الدكتاتور والمسؤول عن الهزيمة... فشاركت في أحداث ومظاهرات 1968 الجامعية ضد نظامه، وانتقلت إلى صفوف معارضيه، لكنني لم أكرهه ولم اعتبره شيطاناً يستحق الرجم كلما أطل يونيو أو يوليو، وكلما حلت ذكرى وفاته أو ميلاده.

ولم أنشغل كثيرا بتوصيف ما حدث في يوليو 1952 لأصعد به في فضاء الثورة أو أمنحه ملامح الانقلاب، فما حدث كان كبيرا ومؤثرا وغيّر بنية المجتمع المصري بسياسات التعليم، والتصنيع، واستصلاح الأراضي، وبناء السد العالي، ورفع شعار الاكتفاء الذاتي، ووضع ملايين البسطاء على سلم النهوض والصعود.

مثل محمد علي كان عبدالناصر حالما كبيرا وبناء. محمد علي أرسل البعثات إلى فرنسا وجر أولاد الفلاحين إلى مدارسه، وتكفل بإعالتهم وتعليمهم على نفقة الدولة، وانشغل بالتصنيع وتشجيع المنتج المحلي، فها هو يصدر أمراً بالامتناع عن شراء الزجاج الأجنبي لأن «أحد أبناء العرب أنشأ فابريقة للزجاج».

وعبدالناصر كان مستبدا وقاسيا على معارضيه مثل محمد علي، الذي تخلص من المماليك، وأقصى شيوخ الأزهر الذين اختاروه والياً، وكان قاسيا حتى على أولاده حين أصدر قرارا بحرمانهم من رواتبهم لأنهم «كسالى وتافهون».

والرجلان في النهاية هزما عسكريا. فمرض عبدالناصر بعد انكسار حلمه ومشاريعه، ومات هما وكمدا، وكذلك محمد علي الذي فقد بصره ثم قواه العقلية قبيل وفاته، لكن الشعوب تفهم وتعرف البنائين وتقدرهم رغم قسوتهم واستبدادهم، لذلك ظل الرجلان رمزين ساطعين في القلب والذاكرة.

في مذكراته يحدثنا نوبار باشا أول رئيس للوزراء في مصر، الذي عمل مترجماً في شبابه لمحمد علي قائلا «عندما توفي إبراهيم باشا، الذي كان الحاكم الفعلي لمصر بسبب مرض والده، لم يسر خلف نعشه أحد، ثم مات محمد علي باشا بعد شهور فخرج سكان القاهرة للسير خلف نعشه».

وأظننا نتذكر الملايين التي بكت عبدالناصر وأزاحت الرسميين والجنود وخطفت النعش، وسارت به إلى مثواه الأخير.

بعد وفاة عبدالناصر كف والدي تماما عن متابعة الأحداث والأخبار رغم انتشار أجهزة الراديو والتلفاز... ربما لأن شيئاً فيه كان قد انكسر أو مات بموت الزعيم.

*كاتب وشاعر مصري

back to top