ياسر عرفات... عاش غموضاً ومات لغزاً

نشر في 11-11-2007 | 00:00
آخر تحديث 11-11-2007 | 00:00
No Image Caption

المشهد الفلسطيني الداخلي من دونه ناقص ومختل. لم تكن شرعيته موضع شك من أي جهة حتى من قِبل أولئك الذين لم يحبوه... حينما أغمض إغماضته الأخيرة في مثل هذا اليوم من عام 2004 جسد في رحلة جنازته بين ثلاث قارات مأساة الشتات الفلسطيني المر... ولم يزل لغز رحيله يثير ما يثيره من علامات الاستفهام وتوابع الأسئلة.

لا يتمكن وزير الصحة الأردني الأسبق أشرف الكردي، الطبيب الخاص المعالج لرئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات على مدى أكثر من عشرين عاما، من تمالك أعصابه حين تسأله وسائل الإعلام، عربية أم عبرية أم عالمية، عن قصة مرض عرفات، فيبدأ بتوجيه اتهاماته وشكوكه الى أقرب المقربين في الحلقة الخاصة بالرئيس أبو عمار، ويفاجئك صوته المتحشرج غضبا وهو يقول عبر الهاتف لـ«الجريدة»: «عندما كان عرفات يكح (يسعل) كانوا يتصلون بي، فلماذا أخفوا عني مرضه الأخير؟»..ويتابع ويبدو صوته كما لو أنه يتذكر ما حدث جيدا، «أخذت حقيبتي الطبية وتوجهت الى رام الله، وأول ما «شفته» قلت له: شو مالك يا أبو عمار، قال بشكل مؤثر: الحقني يا دكتور أشرف ترى تمكنوا مني هاي المرة».

الطبيب الخاص لعرفات، الذي يعرف أدق تفاصيل الخارطة الصحية لجسد عرفات، تم تغييبه على نحو لم يتطوع أحد بتفسيره. ويقول «ثلاثة معطيات دفعتني إلى تكوين انطباع بأن عرفات مات مسموماً، وهي رفض المحيطين به من مسؤولين فتح تحقيق داخلي وفحص آخر الأطعمة التي تناولها عرفات، ورفضهم سفري معه الى مستشفى بيرسي العسكري في فرنسا، ورفضهم تشريح الجثة بعد وصولها الى رام الله، رغم أنني طلبت ذلك الأمر من محمود عباس (أبو مازن)».

ما قاله الكردي لا يختلف كثيرا عما قاله المستشار السياسي لعرفات بسام أبو شريف لـ«الجريدة».

ويروي أبو شريف أنه في أحد اللقاءات بعرفات وجده يأكل برتقالة وبعض الأطعمة الخفيفة، فناوله الرئيس الفلسطيني إحداها، فرد المستشار قائلا: «يا أبو عمار يمكن يكون الأكل مسمم، إنت ليش ما بتخاف من هذه الناحية؟». فأجابه عرفات «انت حساسيتك الأمنية مرتفعة». فقال له أبو شريف «أنا أتيت لإبلاغك معلومات عبر ضابط إسرائيلي، بأن إسرائيل قررت التخلص منك وبأن عليك الانتباه بعد اليوم». ويشير أبو شريف الى انه «بعد شهرين تدهورت صحة عرفات وتوفي لاحقاً».

حقا يمكن القول إن رحيل ياسر عرفات بهذه الطريقة، وهو الزعيم والرئيس الفلسطيني الذي لم يكن أي فلسطيني ينازعه حقه في الزعامة والرئاسة المطلقة، إما خوفا من جبروته أو احتراما لرمزيته، يعد أمراً محيراً يضاف الى المئات من الأسرار والأحجية التي وسمت حياته برمتها، وظلت لغزا كبيرا يصعب الاقتراب من طلاسمه. فمن هو ياسر عرفات الذي رحل في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات؟

السيرة

ولد ياسر عرفات في اغسطس 1929 واسمه الحقيقي هو محمد عبدالرحمن عبد الرؤوف عرفات قدورة الحسيني وكنيته أبو عمار. عرفات هو واحد من سبعة اخوة ولدوا لتاجر فلسطيني. وقد ظل مكان ويوم مولده غير مؤكدين؛ ما بين القاهرة في مصر في 24 أغسطس 1929 والقدس في 4 اغسطس 1929. لكن اكتشاف شهادة ميلاده ومستندات أخرى من جامعة القاهرة قد أنهى الشك في مكان ولادته، حيث يؤكد كاتب سيرته ألن هارت أنه ولد في القاهرة.

يقول سعيد ابو الريس، كاتب سيرة عرفات، أنه لا توجد صلة بين هذا الأخير وعائلة الحسيني المشهورة في القدس، ويذهب بعيدا فيقول ان عرفات «أراد تأسيس اوراق اعتماد فلسطينية كي يروج لنفسه طموحا في القيادة. لذا لا يستطيع ان يتحمل اي حقائق تقلل من هويته الفلسطينية». فعرفات ظل يصر على انه ولد في القدس، وكان قريبا لعائلة الحسيني المهمة هناك.

عاش عرفات اغلب طفولته في القاهرة، الا اربع سنوات بعد موت امه (بين سن الخامس والتاسعة) فإنه عاشها مع عمه في القدس. والتحق بجامعة القاهرة وتخرج فيها مهندسا مدنيا.

كطالب، انضم الى جماعة «الإخوان المسلمين» واتحاد الطلاب الفلسطيني، حيث كان رئيسا له من عام 1952 الى عام 1956. في القاهرة طور علاقة وثيقة مع الحاج امين الحسيني، الذي كان معروفا بمفتي القدس. في 1956 خدم في الجيش المصري اثناء حرب السويس. وحين انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة (3 فبراير 1969) تمت تزكية عرفات كقائد لـ«منظمة التحرير» الفلسطينية. تزوج عرفات متأخرا في حياته من مستشارته الاقتصادية سهى الطويل، حيث رزق بمولودة أسماها «زهوة» تعيش الآن مع أمها في مالطا.

تأسيس «فتح»

بعد حرب السويس، غادر عرفات الى الكويت حيث عمل هناك فنيا كهربائيا، هناك ساعد ايضا على بناء حركة فتح، التي أوجدت لقيام دولة فلسطينية مستقلة. في 1963 قامت سورية باستخدام «فتح» وكيلا لتنفيذ عمليتها العسكرية الاولى -تفجير مضخة ماء اسرائيلية- في ديسمبر 1964. لكن الهجوم كان فاشلا. وبعد حرب الايام الستة عام 1967، حولت اسرائيل اهتمامها من الحكومات العربية الى المنظمات الفلسطينية المختلفة، وكانت «فتح» واحدة منها.

الأردن

في أواخر الستينيات، شهد الأردن توترا بين فصائل المقاومة الفلسطينية والحكومة الأردنية. إذ سيطر المقاتلون الفلسطينيون (الذي كان يطلق عليهم لقب: فدائيون) على عدد من النقاط الحيوية في البلاد، ومنها مصفاة البترول الأردنية. شعر ت عمان عندها بالتهديد من الجماعات الفلسطينية التي لم يكن لها قيادة مركزية، وأدت تراكمات أحداث عدة إلى اندلاع القتال بين قوات الحكومة الأردنية والمقاتلين الفلسطينيين في يونيو 1970، وانتهت بما أصبح يعرف بـ«أيلول الأسود».

لبنان

على أثر انسحاب المقاتلين الفلسطينيين من الأردن، تمت اعادة تمركزهم في لبنان، الذي كان يتميز بضعف سيطرة الحكومة المركزية، وله حدود مع شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما كانت «فتح» تتمتع بجماهيرية في المخيمات الفلسطينية في لبنان. وأدى تراكم الأحداث الى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ثم الاجتياح الإسرائيلي الواسع عام 1982، حين تم تسفير القيادات والمقاتلين الفلسطينيين من لبنان، لينتهي المطاف بهم في تونس.

«كامب ديفيد»... بداية النهاية

بمقتضى اتفاقات أوسلو، عاد عرفات الى الأراضي الفلسطينية عام 1994، حيث استقبله آلاف الفلسطينيين.

وفي عام 1996، انتخب بأغلبية ساحقة رئيساً لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، في أول انتخابات من هذا النوع تنظم على الأراضي الفلسطينية.

لاحقا لاتفاقات أوسلو التي توقفت مراحل تنفيذها، شهد منتجع كامب ديفيد في الولايات المتحدة الأميركية في 25 يوليو 2000، قمة ثلاثية ضمت عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك، والرئيس الاميركي بيل كلينتون، ورفض خلالها عرفات تقديم أي تنازلات عن الحقوق الشرعية الفلسطينية، ومنها حق اللاجئين والقدس، وهذا الأمر جعل شعبيته تزداد بين الفلسطينيين.

غير أن اصطدام السلطة بالمواقف الإسرائيلية المتعنتة أدى إلى انحسار التأييد الشعبي لمشروع السلطة الفلسطينية وقيادتها الممثلة في شخص عرفات. وساهم في ذلك الانحسار قيام السلطة الفلسطينية بملاحقة نشطاء فصائل المقاومة، خصوصا الاسلامية منها، تنفيذا لاستحقاقات الاتفاقيات التي وقعتها مع إسرائيل، فتوالت على عرفات الاتهامات بأنه أصبح أداة في يد الاحتلال لقمع المقاومة الفلسطينية، كما تزامن ذلك مع بداية الحديث المتصاعد عن فساد السلطة وتراخي رئيسها في مواجهته.

في 28 /9 /2000 اندلعت انتفاضة الاقصى، وتوقفت عملية السلام، وذلك اثر دخول رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق آرييل شارون باحة المسجد الاقصى، ولم يكد الأمر يطول حتى استقالت حكومة باراك في اسرائيل، وتولى السلطة ارييل شارون، زعيم اليمين المتطرف الذي عمل منذ توليه منصبه على تنفيذ مخططه الهادف الى تدمير السلطة الفلسطينية.

الحصار في المقاطعة

شارون وكما يصفه المحللون بأنه عدو عرفات اللدود، قام في نهاية عام 2001 بفرض حصار على الرئيس الفلسطيني داخل مقره في مدينة رام الله في الضفة الغربية.

هذا الأمر جعل شعبية عرفات تزداد اكثر فأكثر بين صفوف الشعب الفلسطيني، وترافقت الاصوات المؤيدة لعرفات، مع الاصوات الاسرائيلية المطالبة، بتصفيته أو إبعاده، فعاد عرفات من جديد للمواجهة.

وبعد ختام القمة العربية في بيروت في مارس 2002، شن الجيش الاسرائيلي هجوماً على مقر المقاطعة، مقر القيادة الفلسطينية في رام الله، وهدم جزءا منه، وحاصرت الدبابات الاسرائيلية عرفات في مقره، واستمر الأمر على هذه الحال حتى انسحبت القوات الاسرائيلية، في ليلة الثاني من مايو.

بيد أن الحصار بقي مفروضاً على عرفات، الذي منع من مغادرة مقر المقاطعة، حتى تدهورت صحته في أكتوبر عام 2004، حين نقل الى مستشفى بيرسي في باريس.

back to top