ما أجمل أن تسود ثقافة الاعتذار مجتمعاتنا!

نشر في 24-12-2007
آخر تحديث 24-12-2007 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري

«الاعتذار» فضيلة سامية، وعنوان للرقي والبلسم الشافي للجراح والمطهر للذات والمنقّي للذاكرة التاريخية والمصحح للسلوك، وله أعظم الأثر في تذويب العداوات وإزالة المرارات وتقريب الشعوب وتحقيق المصالحات. وما أجمل أن تسود ثقافة الاعتذار مجتمعاتنا!!

طموح الرئيس الفرنسي النشيط ساركوزي لا حدود له، فهو يطمح إلى حلف أوروبي متوسطي ضم أوروبا أو على الأقل الدول الأوروبية المتوسطية مع الدول العربية والإسلامية المطلة على المتوسط.

بل يطمح إلى ما هو أوسع، إذ اقترح خلال زيارته إلى الجزائر، تعاوناً نووياً بين الغرب والعالم الإسلامي، وفي هذا السياق نفهم ونتفهّم السعي الحثيث للرئيس الفرنسي في حل قضية الممرضات البلغاريات اللاتي احتجزن 8 سنوات في ليبيا كإزالة لعقبة كانت تحول دون توسيع مجال التعاون الغربي-الليبي، الرئيس الفرنسي حريص على توطيد التعاون الفرنسي بكل من الجزائر وليبيا، وفي هذا الإطار أيضاً تأتي زيارة الزعيم الليبي العقيد القذافي إلى فرنسا، التي أثارت ردود فعل واسعة من قبل الأوساط السياسية المعارضة خصوصاً اليسارية.

طموح ساركوزي أمر إيجابي ويحقق المصالح المشتركة للجانبين العربي والفرنسي، ولكن هناك أكثر من عقبة يجب تجاوزها، منها: الانتقادات الشديدة اللهجة من المعارضة وجمعيات حقوق الإنسان لساركوزي بسبب استضافته الزعيم الليبي على خلفية انتهاك حقوق الإنسان في ليبيا بالرغم من أن هذه الزيارة أثمرت عقوداً بـ«10» بلايين يورو تصبّ في دعم الاقتصاد الفرنسي، وقد ردّ الرئيس الفرنسي على منتقديه بأن فرنسا إذ تستقبل القذافي فإنها تستقبل رئيس دولة تخلّى نهائياً عن حيازة السلاح النووي واختار التخلّي نهائياً عن الإرهاب والتعويض عن الضحايا... بعبارة أخرى يريد ساركوزي أن يقول: إنه يجب علينا تشجيع الدول التي تتخلّى عن الإرهاب وتنفتح على التعاون الدولي، لا إغلاق الأبواب في وجهها، وقد يكون في هذه السياسة تشجيعاً لإيران للتخلّي عن برنامجها النووي، أما ردّ الزعيم الليبي على مسألة حقوق الإنسان في بلاده فهو تذكير الأوروبيين بما فعلوه في أفريقيا التي استعمروها وساقوا سكانها عبيداً على متن بواخر كالبهائم، وأيضاً تذكير الفرنسيين بما فعلته قوى الأمن من انتهاك حقوق المهاجرين في ما سُمي «انتفاضة الضواحي» خريف 2005، وهناك عقبة أخرى أو (غَيْرة) ألمانية عبرت عنها المستشارة «ميركل» من أن خطط ساركوزي في شأن اتحاد متوسطي من الممكن أن تؤدي إلى تهديد كيان الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل، أما العقبة أو العقدة الثالثة فهي تاريخية وينبغي تجاوزها وهي مسألة اعتذار فرنسا للجزائر عن الماضي الاستعماري، وبالرغم من إقرار ساركوزي بالآلام وأوجه الظلم التي كانت خلال السنوات الـ«132» التي قضتها فرنسا في الجزائر فإنه قال «إني مع الاعتراف بالوقائع وليس مع الندامة، لأن الندامة مفهوم ديني ولا مكان لها في العلاقات بين دولة وأخرى»، مؤكداً «أن الأجيال الناشئة على ضفتي المتوسط تتطلع إلى المستقبل أكثر مما تنظر إلى الماضي»، ودعا زعماء المنطقة إلى «عدم تعذيب أنفسهم في الندم على الأخطاء أو الذنوب الماضية». بمعنى آخر إن ساركوزي يرفض الاعتذار بناء على المبررات التي ساقها ولكن الجزائريين غير مستعدين لتقبل هذا الرأي، ويرون أن فرنسا تتبنى موقفاً متعنتاً من مسألة الاعتذار، ومعنى ذلك أن العقدة التاريخية المظلمة ستستمر تلقي بظلالها على العلاقات الفرنسية الجزائرية وتحول دون تطبيعها كما يطمح ساركوزي نفسه، والسؤال المحير: لماذا لا تريد فرنسا الاعتذار؟ وما ضرّ فرنسا لو قدمت اعتذاراً يكون خطوة رمزية لطي صفحة الماضي؟ ومن قال إن الاعتذار لا يكون في العلاقات الدولية؟ دول كثيرة تعتذر لبعضها -قديماً وحديثاً- إيطاليا اعترفت بماضيها الاستعماري ووعدت بإعطاء تعويضات إلى الليبيين الذين احتلت بلدهم 33 عاما، واليابان اعتذرت للصين ودول جنوب شرق آسيا خصوصاً الفلبين وكوريا وتعهدت بالتعويض عن المظالم الاستعمارية إبان الحرب العالمية الثانية، واعتذرت روسيا لليابان بسبب الوحشية في التعامل مع الأسرى اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، واعتذرت ألمانيا للعالم عن جرائم النازية ولليهود بصفة خاصة وقدمت لهم تعويضات ضخمة، والولايات المتحدة اعتذرت لمواطنيها من أصل ياباني بسبب سوء معاملتهم إثر الهجوم الياباني على «بيرل هاربر» وعوضتهم، واعتذرت لأفريقيا عن قرون في تجارة العبيد، وفرنسا المستنكفة عن الاعتذار اليوم هي نفسها التي اعتذرت عن شحن يهودها إلى محرقة «الهولوكوست» في الماضي على يد الحكومة الموالية للنازيين، وفي الذكرى العاشرة لمجرزة «سربرنيتشا» وقف الرئيس الصربي -طاديتش- حداداً على الضحايا المسلمين وقدم اعتذاره وتعهد بملاحقة مجرمي الحرب ومحاكمتهم، وتمت محاكمة السفاح الأكبر «ميلوسيفتش» أمام محكمة لاهاي بعد أن قضت أوروبا على نظامه وحاكمت أنصاره واعتذرت لمسلمي البوسنة.

«الاعتذار» فضيلة سامية، وعنوان للرقي والبلسم الشافي للجراح والمطهر للذات والمنقّي للذاكرة التاريخية والمصحح للسلوك، وله أعظم الأثر في تذويب العداوات وإزالة المرارات وتقريب الشعوب وتحقيق المصالحات. وما أجمل أن تسود ثقافة الاعتذار مجتمعاتنا!!

الآن دعونا نتساءل: ما مكانة ثقافة الاعتذار في حياتنا؟ من المفارقات أنه على عظم إعلاء تعاليم الإسلام فضيلة الاعتذار، لا نجد لها صدى أو انعكاساً على أرض الواقع في سلوك الأفراد والجماعات والمجتمعات! عشرات النصوص في الصفح والإحسان ومقابلة الحسنة بالإساءة «تمحها». وفي تمجيد «النفس اللوامة» التي تنشغل بعيوبها أكثر من عيوب الآخرين، وما «التوبة» إلا التعبير الأسمى عن «ثقافة الاعتذار»، لكن ما أكثر الإساءات والمرارات! وما أقل الاعتراف بالأخطاء، والاعتذارات! هناك اعتذارات كثيرة مستحقة ومطلوبة للشعوب العربية أولها وأهمها: اعتذار الحكومات الانقلابية الثورية لشعوبها عن الكوارث والهزائم والاستبداد وإهدار الثروات والمآسي التي سببتها لشعوبها، وبناء عليه إذا كان من حق الجزائر مطالبة فرنسا بالاعتذار فإن العدالة تقضي بأن تعتذر الحكومة الجزائرية هي نفسها لشعبها عن ممارسات جبهة التحرير بحق المدنيين الجزائريين المسلمين وغير المسلمين ضحايا الثوار والحكومات المتعاقبة، وهذا يصدق على كثير من الحكومات العربية التي مارست التعذيب في سجونها ضد المعارضين السياسيين.

«صدام» أذل شعبه واعتدى على جيرانه ورفض الاعتذار حتى وهو على منصة الإعدام!! ومازال كبار أعوانه وأنصاره يكابرون ولا يعتذرون! ولم نسمع عن اعتذار لدولة عربية أساءت لدولة عربية أخرى، ولعل اعتذار -أبو مازن- الجميل للكويت «نعتذر عما بدر منا، ونقول لأهلنا في الخليج نحن بحاجة إلى دعمكم ومساندتكم» حالة استثنائية نادرة في الحياة العربية، وكذلك اعتذار العراق لإيران عن حرب الثماني سنوات، وإذا جئنا إلى مستوى الحركات والتيارات السياسية الكبرى وما سببتها من إساءات فلا نجد أي مراجعة نقدية جادة لطروحها فضلاً عن اعترافها بالأخطاء والاعتذار.

القوميون بوجهيهم «الناصري والبعثي» اضطهدوا ونكّلوا بكل المخالفين لهم ولم يعتذروا حتى الآن، أما «الإخوان» فقد قال كبيرهم في مصر «الإخوان لا يعتذرون» ومن لا يعتذر يعني أنه لا يخطئ فهو فوق البشر. وعلى المستوى الثقافي فالمثقفون أشد بأساً وحسداً بين بعضهم، وكبار مثقفي العرب ساندوا الطغاة و«فرعنوهم» بتمجيدهم رواية وشعراً، ولم يعتذروا ومازالوا يطلعون علينا عبر المنابر والفضائيات أشبه بالديناصورات التي تقاوم الانقراض!

وفي الأمس تكالبت نقابات المحامين والكتّاب دفاعاً عن صدام وبرروا مقابره الجماعية ولم يعتذروا، وأما على مستوى حركات المقاومة المسلحة نجد «حماس» بعد ورطتها وانقلابها الذي أضر بالقضية تكابر ولا تبادر إلى أي اعتذار للشعب الفلسطيني و«حزب الله» بعد مغامرته الكارثية مازال يخادع نفسه بالنصر الإلهي ولم يعتذر للشعب اللبناني.

وأما على المستوى الديني فإن الفاتيكان والكنائس المسيحية في أوروبا ورجال الدين المسيحي يبادرون في كل حين إلى تقديم اعتذار «مسيحي» عن الحروب الصليبية وعن الإساءات إلى المسلمين ومحاكم التفتيش في إسبانيا، لكن لم نجد اعتذاراً «إسلامياً» عن الإرهاب الذي ضرب أوروبا وأميركا على يد شبابنا، وقد حملت الأنباء أخيراً أن «300» رجل دين مسيحي اعتذروا عن الحروب الصليبية في الماضي وعن نتائج الحرب على الإرهاب في الحاضر التي أضرت بالمسلمين طالبين المغفرة والصفح من المسلمين في رسالة بعنوان «حب الله وحب الجار» وذلك رداً على رسالة من «138» عالماً مسلماً: فهل يبادر المشايخ بالاعتذار بالمثل؟ القوم هناك يخطئون فيعتذرون ونحن نخطئ ولا نعتذر هذا هو الفارق الحضاري بيننا وبينهم.

مشايخ «حيّ على الجهاد» الذين حرضوا شبابنا على مقاومة المحتل الأميركي ومن تعاون معهم في العراق، فجّروا أنفسهم في آلاف العراقيين الأبرياء، ألا يجدر بهم الآن الاعتذار لآباء هؤلاء المضلَّلين أولاً وللشعب العراقي ثانياً؟ أحد الدعاة حين علم أن ابنه سيذهب إلى العراق استنجد بسلطات بلاده لمنعه... والذين ناصروا إرهابيي «الفلوجة» واستغلوا المساجد والمسجد الحرام بالدعاء لهم. ألا ينبغي الآن أن يعتذروا؟ المشايخ الذين كفّروا الكتّاب والمثقفين والفنانين لماذا لا يعتذرون؟ أتمنى أن أجد شيخاً يعتذر! الأقليات في العالم العربي لها اعتذارات مستحقة، هناك ضحايا كثر يستحقون الاعتذار من أهمهم ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية من الفسلطينيين الأبرياء، وضحايا صدّام من الأكراد والشيعة والسنة، وضحايا النظام السوداني في دارفور والجنوب... لكن كيف نؤسس ثقافة الاعتذار؟ المواعظ الكثيرة لا تؤسس ثقافة الاعتذار، إنها تبدأ بالتنشئة الأولى مروراً بالمدرسة والمعلم وشيخ الجامع لتترسّخ بالممارسة المجتمعية عبر منظمات المجتمع المدني والمناشط الثقافية والإعلامية المختلفة.

ما أحوجنا إلى ثقافة الحوار، بلسماً شافياً للنفوس وسط المرارات المحيطة... هل يتحقق ذلك؟ هذا أمل.

* بالمشاركة مع جريدة «الوطن» القطرية كاتب قطري

back to top