تركيا على أعتاب دور شرق أوسطي جديد؟
مازالت القوات التركية ترابض على الحدود مع العراق انتظاراً لانتهاء واشنطن من حساباتها السياسية وإعطاء الضوء الأخضر للجيش التركي بالعبور، كما فعل 30 مرة منذ عام 1982.تزداد التكهنات بقرب قيام الجيش التركي بغزو عسكري لشمال العراق، بسبب معلن هو استئصال ميليشيا «حزب العمال الكردستاني» من المنطقة الجبلية التي يتحصن فيها على الحدود العراقية-التركية ويقود منها هجماته ضد الجيش التركي. وإذ تحشد تركيا قواتها بكثافة ملحوظة على الحدود مع العراق، فإن عدد وعتاد الحشد العسكري التركي يتجاوز بوضوح مطاردة ميليشيا عسكرية مبعثرة ويصل إلى مستوى التحضير لغزو بري واسع. وبينما تأسس «حزب العمال الكردستاني» في ثمانينيات القرن المنصرم بهدف معلن، هو إقامة كيان كردي في الأناضول وجنوب شرق تركيا، فإن «المسألة الكردية» تعود إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي. والأكراد الموزعون على تركيا وإيران والعراق وسورية مقسمون منذ عام 1514، عندما انتصر السلطان العثماني سليم الأول على الشاه إسماعيل الصفوي حاكم إيران في موقعة «سهل تشالديران»، فاحتلت الجيوش العثمانية على إثرها مدائن الأناضول وماردين وأورفه وأغلبية أجزاء الأناضول، التي كانت جزءاً من إيران حتى وقتها. وعلى إثر هذه الموقعة العسكرية قبل خمسمئة عام فقد الأكراد وحدتهم الجغرافية، وصاروا مشتتين بين إيران والسلطنة العثمانية. وبعد استقلال العراق وسورية في بدايات القرن العشرين شهدت كردستان تقسيمها التاريخي الثاني، إذ أصبح الأكراد موزعين على تركيا (وريثة السلطنة العثمانية) وإيران والعراق وسورية. ولم تتفق الدول المذكورة يوماً على قضية مشتركة سوى منع قيام أي شكل من أشكال السيادة للأكراد على أي جزء من كردستان التاريخية، على أساس أن هذا الكيان سوف يكون نواة لدولة كردية تتسع لتشمل كل أجزاء «كردستان التاريخية».تنهض الأزمة العسكرية الحالية على الحدود العراقية-التركية وكيلاً عن إشكالية متعددة الطبقات والسطوح، ففي الطبقة على السطح تتفاعل الطموحات الكردية المتعاظمة مع ما تستتبعه -بالضرورة التاريخية والموضوعية- من مخاوف تركية متزايدة. أما الطبقة الأعمق للبناء الصراعي التركي-الكردي فتتجسد في اختلال الموازين الإقليمية في جوار العراق بعد احتلاله؛ على العكس مما جرت عليه التوازنات والتحالفات الإقليمية خلال العقدين السابقين للاحتلال. وهذا الاختلال تمثل في طفور دور إيراني متعاظم في المنطقة، مقابل تراجع للأدوار العربية والتركية. وفي سياق المواجهة الأميركية-الإيرانية أعلنت واشنطن أخيراً عن صفقة تسلح ضخمة لدول الخليج العربية الست ومصر وإسرائيل، وهي الصفقة التي تعني بوضوح أن واشنطن بصدد إجراء ترتيبات إقليمية نهائية لاصطفاف إقليمي ضد طهران. ومن البديهي أن يشمل هكذا اصطفاف إقليمي تركيا، التي تملك من المميزات ما لا يملكه غيرها في المنطقة. مانعت واشنطن حتى الآن في إعطاء الضوء الأخضر للجيش التركي كي يعبر الحدود مع العراق، ويعود هذا الرفض إلى أن ذلك سيقضي على التحالف الأميركي مع أكراد العراق، وهو التحالف الراسخ في الشمال والذي يخفف الضغط على القوات الأميركية في الوسط والجنوب العراقيين. تملك تركيا من المزايا ما لا تملكه غيرها من القوى في الشرق الأوسط، حيث تؤهلها قدراتها العسكرية الضخمة والاقتصادية الكبيرة وثقلها الديموغرافي ونموذج نظامها السياسي لتصبح الشريك الأكثر منفعة لواشنطن. وتركيا هي المعادل لنفوذ إيران في العراق خصوصاً بعد الانسحاب المتوقع للجيش الأميركي من هناك. ودخول تركيا إلى شمال العراق ستكون له نتيجتان؛ أولاهما: معادلة النفوذ الإيراني في العراق عبر إدخال قوة إقليمية معتبره إليه. وثانيتهما: وهي نتيجة متلازمة مع الأولى، تتمثل في تدمير الكيان الكردي شبه المستقل. وتواجه أميركا في منطقتنا الطموحات الإقليمية الإيرانية وتضعها في مرتبة التحدي رقم واحد في قائمة أولوياتها، ولذلك لا يمكنها خسارة حليفها التركي، خصوصاً في حال تفضيل واشنطن للحسم العسكري ضد طهران. ساعتها ستتغير التوازنات في المنطقة بعمق، وساعتها أيضاً سيفقد أكراد العراق الغطاء الذي تسحبه واشنطن عليهم، لمصلحة دور تركي لايمكن الاستغناء عنه. وإن أمكن للأكراد استثمار التغير في موازين القوى بعد عام 2003 لتحقيق مكاسب في العراق في ظل غياب رؤية أميركية شاملة لخريطة التوازنات بالمنطقة، إلا أن هذه المكاسب ربما تصبح قريباً مجرد مكاسب مرحلية ووقتية الطابع. ومرد ذلك أن المفاضلة بين التحالفين الأميركي-الكردي في العراق، والأميركي-التركي في كامل المنطقة تبدو أمراً محسوماً لمصلحة تركيا. مازالت القوات التركية ترابض على الحدود مع العراق انتظاراً لانتهاء واشنطن من حساباتها السياسية وإعطاء الضوء الأخضر للجيش التركي بالعبور، كما فعل 30 مرة منذ عام 1982. وبالنظر إلى السياق الإقليمي الحالي، ستختلف لحظة الانطلاق إلى شمال العراق هذه المرة جذرياً عن المرات السابقة جميعها. كاتب وباحث مصري