المحسوبية وثقافة الخدمة العامة في العالم العربي
المعضلة في عالمنا العربي هي أن المحسوبية تحولت إلى مكون رئيسي يحكم نظرة المواطن إلى المجال العام ومنطق تعامله مع السلطة، ولا أقصر حديثي هنا على سلطة الدولة، بل أوسعه ليشمل كيانات القطاع الخاص والمجتمع المدني غير المدارة بصورة مباشرة من جانب الدولة. فهناك من جهة هيمنة العقلية الاستثنائية الموقنة على الدوام بإمكان الالتفاف حول القوانين والقواعد والأعراف رغبةً في معاملة تفضيلية.ظاهرة المحسوبية هي من شاكلة القضايا التي يصعب تناولها صحفياً خارج الإطارات المعهودة سلفاً والرائجة شعبياً بحكم رواج الظاهرة ذاتها. فهناك من جهة النظرة الاستنكارية التي ترى في المحسوبية كارثة كوارث المجتمعات العربية وعلة تخلفها مقارنة بالمجتمعات المتقدمة، وهناك من جهة أخرى المنهج الحكومي التخفيفي المؤكد على أن المحسوبية وما يرتبط بها من ممارسات فساد واستغلال للمنصب العام إنما تحدث في بلاد العالم كلها قبل أن تكون ظاهرة عربية.ومنعاً لتكرار الالتصاق بأي من هذين المنطقين ورغبةً في معالجة جوهر الأمر، أؤكد للقراء الكرام أنني على علم تام بعالمية ظاهرة المحسوبية وحقيقة وجودها في معظم المجتمعات المعاصرة بغض النظر عن ديموقراطية أو سلطوية مجالها العام والنمط المهيمن على إدارة ترابطات الدولة والمجتمع والفرد بها. إلا أن عالمية الظاهرة لا تنفي نسبيتها بمعنى اختلاف أهميتها الاجتماعية من حالة إلى أخرى وتفاوت منهج التعامل السياسي معها. ففي المجتمع الألماني على سبيل المثال، يشار إلى المحسوبية بالوصف الساخر «فيتامين ب» والمعنى المقصود هنا هو رمزية المقويات الإضافية التي قد تعطي صاحبها معاملة تفضيلية في الحياة العامة خصوصاً في السياقات المهنية. المهم هنا هو أن النظرة المجتمعية للمحسوبية كما تنقلها العبارة اللغوية المستخدمة تتسم؛ أولاً بالسلبية، وثانياً بإدراك محدودية ما ترتبه من نتائج في نهاية المطاف، بل واحتماليتها. فالمحسوبية في ألمانيا، وغيرها من مجتمعات الشمال والجنوب التي استقرت بها قيم حكم القانون ورشادة وشفافية المجال العام، «لا تصنع من الفسيخ شربات» ولا يستحيل معها الاستثناء إلى قاعدة. مقويات فقط! أما بين ظهرانينا فالمعضلة هي أن المحسوبية تحولت إلى مكون رئيسي يحكم نظرة المواطن إلى المجال العام ومنطق تعامله مع السلطة، ولا أقصر حديثي هنا على سلطة الدولة، بل أوسعه ليشمل مساحات المجال العام الاقتصادية (القطاع الخاص) والسياسية (المجتمع المدني) غير المدارة بصورة مباشرة من جانب الدولة. فهناك من جهة هيمنة العقلية الاستثنائية الموقنة على الدوام بإمكان الالتفاف وبطرق مختلفة حول القوانين والقواعد والأعراف رغبةً في معاملة تفضيلية. وهناك من جهة أخرى الإيمان بأن المحسوبية بمنزلة سحر يفتح دوماً أبواب السماء ولا تحد من قدرته أي مقومات موضوعية أو خبرات ماضوية. توقع احتمالية النتيجة غير قائم ولا يرتب، إن أثبتته التجربة العملية، سوى المزيد من المحاولات. تحول ثقافة المحسوبية بالتبعية، وبحكم انتشارها مجتمعياً بغض النظر عن التفاوتات الاقتصادية-الاجتماعية واختلاف الحظوظ من التعليم، دون تحديث المجال العام بشقيه المرتبطين بحكم القانون والخدمة العامة.فعملية التحديث تقتضي في هذا السياق على صعيد أول الشفافية والاستقرار النسبيين لأنساق موضوعية في إدارة شؤون المواطنين، وعلى صعيد ثان شيوع نظرة لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص على أنها جهات محايدة لا تهتم بالأنساب أو المراكز وإنما فقط باللوائح والمقومات والشروط المنظمة لعملها وحركتها في المجتمع. يصبح من الطبيعي في مثل هذا السياق، وهنا يكمن جوهر حالة «الشيزوفرنيا» العربية، أن يفقد المواطن الباحث باستمرار عن الاستثناء والمقبل على توظيف المحسوبية دون قيد أو شرط ثقته في المجال العام عند أول اصطدام سلبي، أي حين تغيب النتيجة الإيجابية ويكتشف وجود من هو أنفذ منه.وعلى خلاف الحلول الأخلاقية التي تطرحها التيارات الدينية سواء بالصيغة الفردية المتمثلة في دعوة إصلاح النفس البشرية أو الجمعية من شاكلة أسلمة المجتمع وتطهيره من الشرور، ربما تَمثّل ملاذ الإنقاذ الوحيد في نشر وعي مدني بأهمية حكم القانون ومعايير الموضوعية والرشادة في المجال العام. وهنا لامناص من أن تسهم مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص مجتمعة وبفاعلية لتطوير ما يمكن تسميته ثقافة الالتزام العام كبديل للمحسوبية وآفاتها.* كبير باحثين بمؤسسة «كارنيغي» للدراسات - واشنطن