صناعة الفساد

نشر في 23-08-2007
آخر تحديث 23-08-2007 | 00:00
 محمد سليمان

اللافت أن الدافع إلى ارتكاب جرائم الرشوة والابتزاز كلها لم يعد الفقر أو الدخل المحدود، وإنما الشره والجشع، الذي بات بلا حدود، فضلا عن الرغبة المحمومة في الثراء السريع والفاحش.

«لا تكن جندياً... ولا تكن تاجراً... ولاتكن فلاحاً... كن موظفاً؛ يحترمك الناس، ويقصدك ذوو الحاجات»... بهذه النصيحة قدس الحكيم المصري القديم إيب أور الوظيفة الحكومية، وأسس للموظف مكانته ودوره وسطوته قبل آلاف السنين. وغرس في وعي الإنسان المصري ووجدانه حب الوظيفة الحكومية، وانتظارها أو السعي خلفها والتشبث بها مهما تواضعت وقل عائدها، وكلنا يتذكر المثل الشعبي الشهير «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه».

وقد ظل الموظف حتى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي موضع احترام وتقدير، خاصة أن راتبه في ذلك الوقت كان يكفيه ويفي بحاجاته، ويساعده على الاحتفاظ بهيبته وكرامته، والاعتداد بهما، وكان الكد من أجل الترقي الوظيفي همه الوحيد.

لكن ذلك كله أصبح من الماضي بعد قيام وانتشار سلطة المال والثروة، وارتفاع رايات «الفهلوة» و«الشطارة» و«السمسرة» والإثراء بكل السبل. وبعدما تولت الدولة مهمة «صنع» الفساد ودعمه أولاً بتلك الهوة بين مرتبات المحظوظين والمحاسيب التي تبلغ عشرات ومئات الآلاف من الجنيهات للواحد منهم شهرياً، وتلك المرتبات الرمزية الهزيلة التي تدفع لغالبية الموظفين، والتي لا تفي بحاجاتهم الضرورية، وتدفع بعضهم بالتالي إلى الاختلاس والابتزاز والغش والسرقة وقبول الرشوة، بل وطلبها أيضاً. ثانيا، بالتقاعس عن محاربة الفساد ومطاردة الفاسدين وإعمال قانون «من أين لك هذا؟» ومصادرة الثروات مجهولة المصدر.

في الأيام الأخيرة انفجرت فضيحة مساعد وزير الثقافة المسؤول عن صندوق التنمية الثقافية، وبالتالي عن أعمال الترميمات والانشاءات والمتاحف جميعها، بالإضافة إلى تمويل الأنشطة الثقافية الآخرى، وهو الآن معتقل بسبب تقاضيه رشاوى تجاوزت مليون جنيه من مقاولين يتعاملون مع الوزارة، واعترفوا بذلك أمام جهات التحقيق، رغم محاولة الوزير دعم وتبرئة مساعده، كما فعل من قبل حين حاول تبرئة سكرتيره الإعلامي، الذي حوكم بتهم مشابهة قبل أعوام عدة وأمضى خمس سنوات في السجن.

ومن وزارة الثقافة إلى وزارة الإعلام إلى الزراعة وغيرها، تنفجر هذه الفضائح، ويتحدث الجميع عن الآثار المسروقة، واختفاء المخطوطات، واستيراد المبيدات المسرطنة. وفي المقابل درجت الدولة «شبه الغائبة» أن تعلن، كلما تفجرت فضيحة أو أخرى، أن الفساد موجود في الدول كلها، وأنها لا تتستر على مجرم أو منحرف، بينما تتصاعد وتيرة الفساد وتزداد سطوته وغلبته.

واللافت هنا أن الدافع إلى ارتكاب جرائم الرشوة والابتزاز كلها لم يعد الفقر أو الدخل المحدود، وإنما الشره والجشع، الذي بات بلا حدود، فضلا عن الرغبة المحمومة في الثراء السريع والفاحش.

فالمسؤول عن «صندوق التنمية الثقافية»، وهو شاب في الأربعين من عمره كان دخله يتراوح بين عشرين وثلاثين ألف جنيه شهرياً، كما صرح بذلك وزير الثقافة لمجلة المصور الأسبوع الماضي، لكن جشعه ساقه إلى قبول الرشوة بالإضافة إلى أراض مخصصة للبناء تلقاها كهدية من الراشين، كما طلب أيضاً أن يحصل على يخت كي يتجول به في البحر المتوسط، أو يفر به إذا ساءت الأمور.

ومن المثير في هذه الجرائم أن أحد الفاسدين في قضايا الفساد الأخيرة، كان يعمل مديراً لمكتب د. يوسف والي وزير الزراعة والأمين العام للحزب الوطني السابق، كان إجمالي دخله الشهري 400 ألف جنيه أي ضعفي راتب الرئيس الأميركي، ورغم هذا الدخل الخرافي من الرواتب والمكافآت، الذي كان يكفي لتشغيل ألف أو ألفين من الشبان العاطلين، تلقى الرجل رشوة وأدخل مبيدات محظورة ومسرطنة إلى البلاد، وهو في سجنه الآن يقضي فترة عقوبة بعد إدانته، إلا أن جريمته وتداعياتها ستظل عالقة في خلايا كثير من المصريين ممن ستطول معاناتهم أمراضاً وحسرة.

في الماضي كان الموظف يحلم بالترقي الوظيفي، ويكد ويشقى لكي يفوز قرب نهاية خدمته بلقب حضرة المحترم المدير، أو وكيل الإدارة، وبعضنا يتذكر رواية نجيب محفوظ الجميلة «حضرة المحترم»، وبطلها الذي سخَّر طاقاته كلها للفوز بسلطة اللقب وهيبته، والذي ظل على مدى سنوات خدمته الوظيفية مشغولاً بحلمه ناسياً متع الحياة جميعها، لكي يسقط في النهاية عاجزاً ومريضاً بعد فوزه مباشرة باللقب.

لكننا الآن في عصر سلطة المال وهيبته، فالأثرياء الجدد، الذين لا نعرف مصدر ثرواتهم، أصبحوا المثل والقدوة بملايينهم ونفوذهم وطائراتهم الخاصة ويخوتهم، وأيضاً بقدرتهم على الحكم والتحكم، وإشاعة ثقافة الفساد التي تُعلي رايات «الفهلوة» و«الابتزاز» و«النهب».

رحم الله جمال عبد الناصر الذي بنى كل ما يُباع الآن ويُنهب، والذي مات أيضا مديناً بآلاف عدة من الجنيهات اقترضها بضمان راتبه، لكي يزوج بناته كمعظم الموظفين البسطاء والشرفاء.

كاتب وشاعر مصري*

back to top