مصداقية بخمسة مليارات دولار

نشر في 18-08-2007 | 00:00
آخر تحديث 18-08-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

نجحت «وول ستريت جورنال» بفضل التزامها، إلى حد معقول، قيم العمل الصحافي الرشيد، وليس باعتماد الإثارة أو التشويق أو التهويل أو المبالغة أو ارتكاب أنماط الانحياز. كما تمكنت من شق طريقها لتتربع على عرش الصحف الأميركية الأكثر توزيعاً.

في العام 1889، صدرت صحيفة «وول ستريت جورنال»، مستمدة اسمها من الشارع الذي يمثل قلب حي المال في نيويورك، لتكسب سمعة ومصداقية عاليتين على مدى نحو 120 عاماً من عمل صحافي-اقتصادي وُصف دوماً بأنه «شديد الإتقان والتوازن».

وفي مطلع هذا الشهر، كانت «الجورنال»، في حد ذاتها، خبراً في شتّى وسائل الإعلام، بعدما دأبت على البحث عن الأخبار طيلة عمرها؛ فقد اشترى عملاق الإعلام العالمي روبرت مردوخ الصحيفة العتيدة مقابل 5.6 مليارات دولار، في صفقة شهدت تجاذبات ومساومات شاقة، استمرت على مدى نحو ثلاثة أشهر، قبل أن يتم حسمها لمصلحة المستثمر المثير للجدل.

ومردوخ هو صاحب شركة «نيوز كورب»، التي تمتلك عدداً من وسائل الإعلام التي تتميز بتحقيق الأرباح الوفيرة وإثارة الجدل الوفير في الوقت ذاته؛ فإلى جانب «سكاي نيوز» الرصينة، و«التايمز» اللندنية ذات السمعة الجيدة، هناك «ذا صن» التي تنشر صورة فتاة عارية على صفحتها الثالثة يومياً، وتوزع نحو خمسة ملايين نسخة في المملكة المتحدة، وهناك أيضاً «نيويورك بوست» الأميركية ذات قطع «التابلويد»، فضلاً عن «فوكس نيوز» التي تمثل إحدى أكثر الفضائيات تعرضاً للنقد عبر العالم.

إمبراطورية مردوخ، وسياساته التسويقية الناجحة، التي أمنت له تحقيق مليارات الدولارات من الأرباح سنوياً، لم تحل دون وضعه دوماً تحت العدسات الفاحصة، بل إن الكثيرين يعتقدون أن ارتباط أي وسيلة إعلامية، مهما حققت من مصداقية، باسم الملياردير الأسترالي الأصل من شأنه أن يصيب تلك الوسيلة بأضرار، ويطرح بصدد مستقبلها التساؤلات.

فهل باتت «الجورنال» في مهب الريح؟ هل ستتكسر مصداقيتها التي حققتها على مدى أكثر من قرن من الزمان، والتي جعلتها لعقود طويلة تحتل المرتبة الأولى بين الصحف الأميركية الأكثر توزيعاً؟ ما الذي أغرى المشتري بالشراء؟ وما الذي أغرى البائع ليبيع؟

«الجورنال» اليوم على المحك؛ «فمن يدفع للزمار يسمع اللحن الذي يطربه، ومن يزود السيارة بالوقود يحدد وجهة السير، ولا فرق تقريباً بين الملكية والتحكم». هكذا يقول منتقدو الصفقة، الذين يعتبرون أن الصحيفة «ستخسر المصداقية التي بنتها عبر التزامها قيم العمل الصحافي الرشيد طيلة العقود الفائتة». الأكثر من ذلك، أن عضو مجلس الإدارة ليسلي هيل، والتي تنتمي إلى أسرة بانكروفت التي أسست «الجورنال»، استقالت احتجاجاً على الصفقة، وهو الأمر ذاته الذي فعله عدد من الصحافيين الذين رفضوا أن يعملوا لحساب مردوخ.

ولا يبدو أن تلك المخاوف اقتصرت على هؤلاء الذين استقالوا فقط؛ إذ صدرت افتتاحية الصحيفة في اليوم التالي للشراء بالهواجس ذاتها؛ ودعا كاتب الافتتاحية إلى «الحفاظ على مصداقية الجورنال وقيمها»، وهو الأمر الذي بدا محل شك، لم يبدده إقدام مردوخ على التعهد بالفصل بين الإدارة والملكية، بل وتعيين هيئة تحرير تضم خمسة أسماء لامعة لتعمل كحاجز بين الإدارة وصالة التحرير، وتقلل إلى أقصى درجة ممكنة من تدخلات المالك.

لقد دفع مردوخ أربعة مليارات دولار فوق القيمة السوقية لأسهم شركة «داو جونز» مالكة الصحيفة لينجح في شرائها... أربعة مليارات دولار تمثل نحو %70 من قيمة الصفقة راحت مقابل اسم «وول ستريت جورنال».

فكيف نجحت تلك الصحيفة في تعظيم القيمة الفعلية لاسمها لتبلغ هذا الحد، وكيف ضربت بقوانين السوق عرض الحائط، وأقنعت مستثمراً بحذق مردوخ ونباهته بدفع هذا المبلغ الكبير؟

لقد نجحت «الجورنال» بفضل التزامها، إلى حد معقول، قيم العمل الصحفي الرشيد، وليس باعتماد الإثارة أو التشويق أو التهويل أو المبالغة أو ارتكاب أنماط الانحياز. لقد شقت «الجورنال» طريقها لتتربع على عرش الصحف الأميركية الأكثر توزيعاً، وتطبع نحو مليوني نسخة، في ثلاث طبعات توزع عبر أميركا وآسيا وأوروبا، وتطور خدمة إلكترونية، يبلغ عدد مشتركيها نحو 930 ألفاً، وتفوز بجائزة «بوليتزر» كأفضل صحيفة لـ33 مرة عبر تاريخها.

ورغم أن «الجورنال» صحيفة نخبوية بامتياز؛ إذ ينتمي جل قرائها إلى عالم الأعمال، ويعملون مديرين ومستثمرين ورجال مال، فإنها حافظت على معدلات توزيع عالية، ومن ثم حصص من الإعلان وفيرة، بسبب ما حرصت عليه من توازن في تغطياتها الصحفية، واستيفاء لعناصر القصص التي تتصدى لمعالجتها، وطرح لمختلف وجهات النظر حيالها، وفصل للرأي عن الخبر.

اليوم «الجورنال» على المحك؛ فإما أن تثبت أنها قادرة على الحفاظ على سمعتها ومصداقيتها عبر فصل الملكية عن الإدارة وتكريس القيم الصحفية التي تبنتها طيلة مشوارها، وإما أن تقع تحت سيطرة مالك لا يدري أن الاستقلالية التي تحلت بها الصحيفة هي التي صنعت سمعتها بين الجمهور، وأن تلك الاستقلالية، ومن ثم المصداقية، تدخلان في قلب القيمة التي دفعها عند إتمام صفقة الشراء.

 

* كاتب مصري

back to top