أميركا وأوروبا بين فتح وحماس
كان من الطبيعي والمتوقع إذاً، أن ترى إدارة بوش والحكومات الأوروبية في أحداث غزة يونيو 2007، فرصة جديدة لإذكاء نيران الصراع بين «معتدلي» و«متشددي» الشرق الأوسط.رتب فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية الفلسطينية 2006 اتساعاً بيناً لمساحات التماهي بين المقاربة الأميركية والمقاربات الأوروبية للساحة الفلسطينية. التقت الولايات المتحدة والأقطاب الأوروبية الفاعلة على النظر إلى «حماس» بكونها حركة معادية ينبغي حصارها بهدف تهميشها مادام تعذر فرض تغير فعلي في خطابها وممارساتها. في المقابل صُور دور «فتح»، وفي موقع القلب منه دور الرئيس محمود عباس، على أنه الضمانة الوحيدة لاستمرارية سياسة فلسطينية تجاه إسرائيل لا تتناقض مع الأولويات والمصالح الغربية، بل وترتبط بها إقليمياً. اتسمت الاستراتيجية الأميركية والأوروبية تجاه «حماس» و«فتح» خلال الأشهر السبعة الأولى من 2006 بتكثيف الضغوط على الحركة وحكومتها من خلال إيقاف برامج المساعدات الاقتصادية والمالية الغربية المقدمة للفلسطينيين وتوظيف أدوات الضغط العسكري والحصار السياسي داخلياً والدبلوماسي إقليمياً ودولياً بهدف؛ إجبار «حماس» على نبذ العنف، والاعتراف بإسرائيل، والقبول غير المشروط باتفاقات السلام المبرمة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية (شروط اللجنة الرباعية)، أو حال الممانعة لإفشال حكومتها بتغييب فاعليتها ودفعها إلى سلسلة من المواجهات المستمرة مع إسرائيل و«فتح» تستنزفها وتعمق من عزلتها.الأمر اللافت هنا، أن التوافق الأميركي الأوروبي في هذه المرحلة رفض الانقلاب الكلي على نتائج الانتخابات الفلسطينية سواء بقيام الرئيس الفلسطيني بحل المجلس التشريعي والدعوة إلى انتخابات مبكرة أو بحل حكومة «حماس» وتشكيل حكومة طوارئ، وكلاهما طُرحا مراراً من جانب «فتح» والحكومة الإسرائيلية وبعض الأطراف الإقليمية الأخرى كمداخل أخيرة للإنقاذ. بدا الحذر الغربي في هذا السياق مدفوعاً من جهة برغبة أميركية أوروبية في عدم الزج في بالمنطقة بمجمل توتراتها في العراق ولبنان وغيرهما نحو لحظة صراعية شاملة تشتعل بها الساحة الفلسطينية، كذلك ومن جهة أخرى برغبة أميركية في الحفاظ على ما تبقى من مصداقية للولايات المتحدة لدى العرب بالامتناع عن تشجيع إقصاء عنيف وغير دستوري لـ«حماس» المنتخبة في واحدة من أكثر الانتخابات العربية نزاهةً، كما وثقت العديد من المنظمات الدولية.إلا أن الخطوط الحمراء للمقاربة الأميركية والأوروبية تجاه «فتح» و«حماس» تبدلت بصورة جذرية مع نشوب الحرب الإسرائيلية على لبنان يوليه 2006. تصاعدت الضغوط الأميركية والأوروبية على «حماس» لكونها أحد العناصر الفاعلة في المحور الإيراني-السوري (معسكر المتشددين)، لتأخذ شكلاً صراعياً واضحاً. وفقدت الحلول التوفيقية المحبذة لتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم «فتح» و«حماس»، التي كانت دول أوروبية متوسطة (إيطاليا) وصغيرة (النرويج والسويد) قد صاغتها قبل الحرب، أهميتها واختفت تدريجياً من قاموس النقاش الغربي بشأن الأوضاع الفلسطينية. ورتبت هيمنة المقاربة الصراعية تجاه «حماس» ان اختفت كذلك الخطوط الحمراء التي حالت بين الغرب وبين تأييد إقصاء عنيف لـ«حماس» تديره «فتح»، بل وشَرَعت الولايات المتحدة تحديداً، وبتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية وعدد من الأطراف الإقليمية الحليفة لواشنطن، تعد وتنفذ خططا لتسليح الأجهزة الأمنية التابعة للرئاسة الفلسطينية هدفت إلى تغيير الميزان العسكري بينها وبين «حماس» على نحو يضمن سيطرة محمود عباس ورفاقه على الضفة الغربية وغزة حال المواجهة مع «حماس». ثم حالت المقاربة الصراعية ذاتها من دون تطور تأييد غربي فعال للجهود السعودية التي أسفرت عن «اتفاق مكة» وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، فتحفظت عليها الولايات المتحدة والأقطاب الأوروبية وبرزت على السطح توترات بين واشنطن والحليف السعودي الذي نُظر إلى دبلوماسيته التوفيقية بكونها تهميشا لمحورية ثنائية «المعتدلين-المتشددين» التي تبنتها الولايات المتحدة بعد الحرب. كان من الطبيعي والمتوقع إذاً، أن ترى إدارة بوش والحكومات الأوروبية في أحداث غزة يونيو 2007، ومع التسليم بفداحة الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته «حماس»، إنهاءً للحظة من الغموض فرضتها حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية وبالتبعية فرصة جديدة لإذكاء نيران الصراع بين «معتدلي» و«متشددي» الشرق الأوسط. اليوم تُبنى المقاربة الأميركية والأوروبية تجاه الساحة الفلسطينية على أربعة أهداف رئيسية: أولاً، محورية عزل غزة عن الضفة وعزل «حماس» لأجل غير مسمى في غزة (حماس-ستان كما تعارف على تسميتها عدد من أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة)، والتجاهل العملي للأوضاع الكارثية التي يعيشها الشعب الفلسطيني هناك.ثانياً، دفع الرئيس عباس و«فتح» إلى نقطة اللاعودة في ما يتعلق بإقصاء «حماس» واستبعاد الحوار معها والإبقاء على حكومة الطوارئ برئاسة سلام فياض كشريك مثالي للغرب ولإسرائيل في مفاوضات سلام محتملة.ثالثاً، إنتاج زخم دولي وإقليمي لدعم عباس بإحياء المسار التفاوضي الثنائي بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والمسار متعدد الأطراف بالدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط.وأخيراً، الضغط الجزئي على الحكومة الإسرائيلية لقبول الشروع في مفاوضات حول الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية مع السلطة، وتخفيف القبضة الأمنية لقوات الاحتلال في الضفة الغربية، تحسيناً لصورة عباس و«فتح» بين المواطنين الفلسطينيين. تلك هي الخطوط الاستراتيجية العريضة للدور الأميركي-الأوروبي اليوم ومن غير المتوقع تغيرها في المستقبل المنظور.*كبير باحثين في مؤسسة «كارنيجي للسلام العالمي»-واشنطن