النظم الإسلاميّة
تأليف: د. عبد العزيز الدوريالناشر: مركز دراسات الوحدة العربيّة
يعيد مركز دراسات الوحدة العربية إصدار سلسلة الأعمال الكاملة للمؤرخ العراقي الدكتور عبد العزيز الدوري، وكتابه «النظم الإسلامية» هو المجلد السادس منها.تطرق عبد العزيز الدوري في المجلدات الخمسة الأولى الى تاريخ صدر الإسلام ونشأة علم التاريخ عند العرب، انتقل بعدها الى دراسة في التاريخ السياسي والإداري والمالي في العصر العباسي، تلتها دراسات في العصور العباسية المتأخرة ومقدّمة في التاريخ الاقتصادي العربي.يتناول «النظم الإسلامية» الميادين السياسية والمالية والإدارية في فصول ثلاثة ابتداء بمرحلة الرسالة، فالعصر الراشدي، ثم الأمويّ وانتهاءً بالعصور العباسية. ولا يخفى أنّ شخصية الأمة تظهر من خلال النظم التي تسير عليها، لذلك تعتبر دراسة النظم الإسلامية مهمة جداً لفهم العناصر الخفية والتيارات المهمة التي أثّرت في المجتمع الإسلامي، والبحث في أنواع هذه النظم المختلفة يكشف لنا الكثير من الحركات والتطورات الاجتماعية والفكرية.النظم الثابتة والجامدة تعيد المجتمعات الى وراء، بينما النظم المتطورة تؤثر في عمق المجتمعات وتاريخها، إذ تجتاز مراحل مختلفة وتؤدي أدواراً متنوِّعة، ولا يمكن فهمها فهماً كاملاً إلاّ إذا تتبعنا مسيرتها خلال العصور.نشأة النظملم تنشأ النظم الإسلاميّة كلها بعد ظهور الإسلام، ولم تنضج في فترات قصيرة، بل ترجع أصول البعض منها، كما يقول الدوري، الى الأنظمة التي كانت سائدة في الشرق الأدنى قبل الإسلام. فالجاهلية العربية عرفت أنظمة وتقاليد اجتماعية استقى الإسلام منها بعدما أصلحها وهذبها فأصبحت من منابع نظمه. ولما عمّت فتوحات العرب وامتدت شرقاً وغرباً اكتسبوا من ثقافة الغير وأفادوا من النظم الساسانية والبيزنطية في الشؤون الإدارية والمالية خاصةً.وما يسترعي الباحث في هذا الشأن أنّ المبادئ الإسلامية والعبقرية العربية تضافرت على تهذيب هذه الأصول وتكييفها ثم طبعها بطابع إسلامي، كما اضطروا الى وضع أنظمة جديدة تلائم حاجات القوم مثل مؤسسة الخلافة والقضاء. ومع مرور الزّمن اقتضت الأوضاع إنشاء مؤسسات جديدة كالصيرفة والمال فتوسعت وتشعبت بفضل التطور الحضري والفكري وشرع النموّ يأخذ بُعداً لم يسبق له نظير.كي تكتمل دراسة المؤلف لم يهتم بالمؤسسات الرسمية كنظام الحكم أو النظم الإدارية والمالية، بل تعدّاها الى المؤسسات الشعبية كالحرف والوقف والمدارس والتكايا والزوايا، لأنها تكشف لنا عن حيوية الأمة ونموّها، وتعرّض أيضاً الى بعض الحركات الاجتماعية الكبرى كحركة القرامطة والإسماعيلية وحركة الفتوة، والى بعض النزاعات والحروب التي قامت في حينها.النظم السياسيةأوجد الرسول (صلعم) مبادئ أنظمة جديدة بعدما أجرى تعديلاً أو تبديلاً لبعض الأنظمة الجاهلية التي كانت ترتكز على مفهوم القبيلة. وكان لكل قبيلة مجلس شورى يتكون من المتنفذين ورؤساء العائلات وهو الذي ينتخب شيخ القبيلة. أما تقاليد مكة السياسية، والتي كان أهلها يسمون «الجماعة» وإنشاؤهم «دار الندوة» شمالي الكعبة للتداول والتشاور، فقد أثرت تأثيراً بالغاً أفاد منه المسلمون في صدر الإسلام، كما أفادوا في ما بعد من الدولة الساسانية التي قامت على السلطة التنفيذية المطلقة وكانت بيد الملك إضافة الى السلطة القضائية. أما الدولة البيزنطية فكان قائدها الأعلى الأمبراطور المشرّع الأكبر والمعصوم عن الخطأ، وعلى الرغم من توالي الحروب كانت بيزنطية على اتصال بالشرق الإسلامي مما ولّد تبادلاً في المؤثرات.ظهر الرسول في مكة كواعظ ديني ومصلح اجتماعي يسعى لتكوين «أمة» جديدة هو قائدها ومرشدها، فالدين والسياسة كانا وبقيا مجتمعين في دعوته. وكانت هجرته الى المدينة فتحاً دينيّاً وسياسياً حيث ظهرت عبقريته السياسية ومقدرته على التنظيم.بدأ الرسول ببناء مسجد ليكون مركز اجتماع للمسلمين ونادياً لهم ومحلاً لعباداتهم، ووضع نظام «المؤاخاة»، واستبدل رابطة الدين بروابط الدم لتخفيف النزاعات، وكتب «كتابا» بين المهاجرين والأنصار واليهود بيّن فيه أسس الدولة الجديدة في المدينة. وهكذا اتحد الدين بالسياسة اتحاداً يسمح بالتمييز بينهما قليلاً، فكان سلطان الرسول الديني يعتمد على الوحي الإلهي ولا مجال للجهد البشري فيه. أما في السلطات الزمنية فكان له مشاورون من أصحابه وكان يراعي بعض التقاليد والظروف. ثم يأتي المؤلف على نظام الخلافة وتطوّره في عصر الراشدين. فالخليفة ورث جميع سلطات الرسول عدا النبوة واتخذ أبو بكر لقب «خليفة رسول الله». أما في عصر الأمويين فكان المبدأ القبلي هو السائد، فيما كان المبدأ الإسلامي السبب الدافع للحركات التي قامت ضد بني أمية.ومع حلول العصر العباسي تطوّر نظام الإدارة واشتركت العناصر الأجنبية في الحكم، فتعاظم نفوذ الأترك الذي أضرّ بنظام الخلافة، وتبعه الدور البويهي الذي نقل وضع الخلافة الى وضع أسوأ. وفي هذا الإطار يستعرض المؤلف نظريات الخلافة انطلاقاً من نظرية أهل السنة، وآراء الخوارج، ونظرية الإمامية.النظم الماليّةاتبع الرسول سياسةً راعى فيها طريقة خضوع البلاد له بالقوة أو بالصلح، وراعى أهلها عرباً أو غير عرب، وعلى ضوء ذلك اتخذ تدابير خاصة للأراضي التي فتحها عنوة وتقسم الى اثنين: الأراضي غير العربية والأراضي العربية فوضع لها الضريبة أو الخراج المناسب كما فرضَ الجزية على الأراضي التي فتحت صلحاً.واستفاد عمر بن الخطاب لاحقاً في تنظيم الضرائب، في البلاد المفتوحة، من روح الإسلام وتنظيمات الرسول وأبي بكر من جهة، ومن الأوضاع التي كانت سائدة في البلاد المفتوحة. كما أنه اجتهد برأيه واستشار الصحابة، فنتج عن ذلك هيكل التنظيمات المالية الإسلامية الأولى، وتمّ تصنيف الأراضي في خلافته.غدت الجزية والخراج عماد الخزينة المركزية، لكن الظروف اقتضت بتعديل نظام عمر في العصر الأموي فساروا على مبدأ اللامركزية في الإدارة ووسّعوا سلطة العمال الذين عبثوا بأموال الرعية والدولة. وأطلّ العصر العباسي الأول فأحيوا نظام الريّ القديم ونظموه وحفروا قنوات جديدة ولا سيما في منطقة بغداد لأن مركز الخلافة انتقل الى العراق، وعملوا على تنظيم الضرائب والجزية والصدقات.النظم الإداريّةاحتاج العرب الى التنظيم العسكري والإداري والمالي فلجأوا الى إنشاء الدواوين المركزية بأنفسهم وكانت تستعمل اللغة العربية وحدها. بينما أبقوا على الدواوين المحلية الساسانية والبيزنطية أوّل الأمر، الى أن تمّ تعريبها زمن عبد الملك بن مروان في أواسط الدولة الأموية.أما الدواوين الأموية الرئيسة فهي: ديوان الخراج، ديوان الجند، ديوان الخاتم، ديوان الرسائل، ديوان البريد، ديوان النفقات، ديوان الصدقة، ديوان المستغلات وديوان الطراز.وورث العباسيّون هذا التراث فطوّروه حسب ظروفهم، وزادوا في المركزية ولا سيما بعد إحداث منصب الوزارة ووسّعوا سلطة الوزير لتشمل الإشراف على جميع الدواوين.اعتمد المؤلف الكثير من الموضوعية العلميّة في إظهاره شخصية الأمة العربية من خلال النظم التي سارت عليها وهو بذلك يظهر قدرة الدولة الإسلامية على تطوير أنظمتها واللحاق بالركب الحضاري الذي لا يمهل أحداً.تذوّقوقد كان يؤخذ من الجزء الأكبر من أراضي السواد، ولذلك اهتم العباسيون بجبايته وبتنظيمه. وبان اهتمامهم به لأول مرة في خراسان، فإن خالداً بن برمك «كان.. في عسكر قحطبة يتقلد خراج كل ما افتتحه قحطبة من الكور.. فكان يقال أنه ما من أحد من أهل خراسان إلاّ ولخالد عليه يد ومنّة لأنه قسط الخراج فأحسن فيه إلى أهله». ومن هذا يظهر أنهم حاولوا تنظيم جباية الخراج وتخفيفه في خراسان عند مجيئهم الى الحكم.أما في السواد، فكان الخراج يؤخذ نقداً وعلى المساحة زرعت الأرض أم لم تزرع حسب الأسس التي وضعها عمر بن الخطاب. واستمر ذلك حتى أبدل به المهدي نظام المقاسمة على الحقول، وهو أخذ نسبة معينة من الحاصل «النصف على ما يسقى سيحاً، والثلث على ما يسقى بالدوالي (الكرود)، والربع على ما يسقى بالدواليب (النواعير)» مراعياً في ذلك تكاليف السقي بنسبة عكسية. ولكنه غير هذه النسب في حالات خاصة، فحين حفر نهر الصلة «جلب المزارعين وأغراهم أن يقاسموا على الخمسين (لمدة) خمسين سنة فإذا انقضت الخمسون لم يجروا على الشرط المشترط لهم».