الإسلام الوطني

نشر في 12-08-2007
آخر تحديث 12-08-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي

الخطورة الآن في تفتيت الأوطان إلى كيانات عرقية وطائفية والقضاء على الولاء الوطني لولاءات بديلة، حتى تبتلع العولمة الشاملة هذا الفسيفساء العرقي الطائفي. فالوطن مهدّد من الأسفل بالطائفية والعرقية ومن الأعلى بالعولمة والشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية.

«الإسلام الوطني» هو إحدى صياغات «اليسار الإسلامي». يعطي الأولوية للوطن على القبيلة والقوم والعشيرة والعرق والمذهب والطائفة. فالوطن هو الذي يجمع بين الناس وليس العصبية، كما كانت الحال في العهد القبلي وكما وصف ابن خلدون. والوطن إحساس بديهي بالمكان، وذكريات الطفولة، وصداقات الصبا. والوعي الأولي بالعالم. هو اجتماع المكان، مكان الولادة، بالزمان، بالعصر والتاريخ. الوطن هو الواقع الذي يعيش الإنسان فيه، يخلق فيه الوعي، ويسعى فيه الجسد. اشتق منه لفظ «مواطن» أي من ينتسب إلى وطن. لذلك كان ضمن العقوبات الشرعية «التغريب» أي الإبعاد عن الوطن. ومهما عاش المغترب حالياً خارج وطنه فإنه يحن إليه، يحلم به، ويسامحه مهما أساء إليه بدفعه إلى الهجرة بعيداً عنه. أول ما يسمع من الأخبار عنه، يأكل طعامه ويشرب شرابه ويلبس لباسه ويسكن مسكنه، وهو في الغربة حتى يعيش في وطن بديل، يحمله بين جنبيه في الهجرة والعودة. يسمع أدب المهجر، والحنين إلى الأوطان. ويشاهد «الجزيرة» و«العربية» والفضائيات العربية. ويشارك بأقصى جهد في المهرجانات الوطنية. ويسير في المظاهرات في الشوارع ويشارك في الملتقيات الشعبية في الميادين والحدائق دفاعاً عن الوطن إذا ما أصابه سوء، احتلال وغزو من الخارج أو قهر وتسلط من الداخل.

ليس الوطن ضد الدين بدعوى أن الوطن قيمة علمانية وأن الدين عابر للأوطان، لا يفرق بين وطن ووطن أو قوم وقوم أو شعب وشعب. كل من قال «لا إله إلا الله» فهو مواطن سواء انتسب إلى هذه القومية أو تلك. الوطن واحد. والقوميات والعرقيات والطوائف والمذاهب متعددة.

وحب الأوطان ليس غريباً على التراث الإسلامي. فقد روي عن الرسول ما تعلمناه في المدارس الوطنية ومكتوب على ظهر الصفحة الأخيرة من نصائح «حب الوطن من الإيمان». صحيح لفظ الوطن غير مذكور في القرآن إلا بمعنى الموطن أي المكان «لقد نصركم الله في مواطن كثيرة» ويعنى موقع النصر وليس الهزيمة أو الهجرة. وألقى الرسول خطاباً ليلة الهجرة في مكة وهو يودعها في نظرة أخيرة، معلناً أنها أحب البلدان إلى قلبه لولا ظلم أهلها. وكان لدى عمر بن الخطاب إحساس بأن العرب ينتمون إلى بلاد العرب ذات الدين الواحد «والله لن أجعل في بلاد العرب دينين». وكتب التوحيدي رسالة «في الحنين إلى الأوطان». وقد صدر الطهطاوي كتابه «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» بأنشودة في حب الوطن وفي كل التراث الإسلامي في حب الأوطان.

وطالما قامت حركات التحرر الوطني على أولوية الوطن على الإيديولوجيات السياسية. قامت بفضل «الجبهة الوطنية» أو «الائتلاف الوطني» أو «البرنامج الوطني» أو «الخلاص الوطني». فالوطن بوتقة تنصهر فيه كل الاختلافات الإيديولوجية والمذهبية. فاللبناني لبناني أولا قبل أن يكون مسلماً أو مسيحياً، شيعياً أو سنياً، مارونياً أو كاثوليكياً أو أرثوذكسياً، درزياً أو عربياً أو كردياً.

وفي نظرية الدوائر الثلاث التي حكمت جيلاً بأكمله كان الوطن هو البؤرة، الدائرة الأولى، ثم القومية الدائرة الثانية ثم الإسلام الدائرة الثالثة، مصر والعروبة والإسلام. وليس صحيحا أن الوطن مفهوم استعماري. فقد قسم الاستعمار الأمة إلى أوطان، والخلافة إلى أمصار لأن الوطن في وجوده سابق على الأمة كوحدة قلبية وعلى الخلافة كوحدة سياسية. وكان عيب «الجمهورية العربية المتحدة» في 1958- 1961 أنها أسقطت أسماء الأوطان مصر وسورية. أما اسم «جمهورية مصر العربية» فإنه يعطي الأولوية للوطن على القومية فى حين أن «الجمهورية العربية السورية» و «الجمهورية العربية اليمنية» تعطى الأولوية للقومية على الوطنية. أما «الجمهورية التونسية» أو «الجمهورية الجزائرية» فإنها تقتصر على الوطن دون العروبة. والاختلاف شديد بينها في النظم السياسية بين الجمهورية والملكية والدولة والسلطنة. فالولاء الوطني ليس خيانة للولاء القُطري أو الأممي. فالوطن ليس هو القطر. الوطن كيان أولي في حين أن القطر جزء مصطنع من كيان سياسي أشمل. ومن ثم لا مكان لتكفير الإسلامي للوطني والقومي أو تخوين الإسلامي والقومي للوطني. فلا خصومة ولا فرقة في الوطن، بل الحوار الوطني بين جميع الاتجاهات الفكرية والتيارات السياسية. الوطن هو الانتماء الأول والولاء الأول الذي منه تتشعب الاختيارات السياسية.

ليس الوطن قيمة غربية من منظومة القيم العلمانية مثل العقل والحرية والإنسان والتقدم والمساواة والطبيعة، بل هو عاطفة أولية تقوم على تفاعل الزمان والمكان في وعي الإنسان بالعالم منذ الصغر. ومن ثم الوطن هو الرابطة الجامعة لكل المواطنين. والأغرب هو عزل المواطنين المصريين في درس التربية الدينية بين المسلمين لدراسة الدين الإسلامي والأقباط لدراسة الدين المسيحي وفك رابطة الوطن لمصلحة رابطة الدين مع أن التربية الوطنية جامع للفريقين، والقيم الأخلاقية هي الجامع للدينين. الوطن هو الجيرة والقرابة، والأقربون أولى بالشفعة. والجار أولى من البعيد «مازال جبريل يوصني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».

الخطورة الآن في تفتيت الأوطان إلى كيانات عرقية وطائفية والقضاء على الولاء الوطني لولاءات بديلة حتى تبتلع العولمة الشاملة هذا الفسيفساء العرقي الطائفي. فالوطن مهدد من الأسفل بالطائفية والعرقية ومن الأعلى بالعولمة والشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية.

الوطن كيان تاريخي تجسده الدولة خاصة في بعض الدول التاريخية مثل مصر والمغرب والعراق. قد تكون الدولة الوطنية الحديثة في مرحلة ما بعد الاستعمار شكلاً حديثاً لأمم تاريخية. الوطن خبرة أولية لا ترد إلى القطر أو البلد أو المصر أو الأراضى المتنازع عليها تحت وصاية الأمم المتحدة أو تحت الاحتلال. الوطن رموزه النشيد الوطني، والسلام الوطني، والعلم الوطني، والزي الوطني، والحياة الشعبية الوطنية. والمواطنة سابقة على الحرية لأنه لا حرية إلا لمواطنين. والحرية لا تكون إلا في وطن. ويمكن للمواطن التنازل عن حريته الفردية في سبيل حرية الأوطان. وحرية الأوطان لا تؤجل حتى يتحرر المواطن. تحرير فلسطين له الأولوية على حرية الفلسطيني. فالوطن قبل الفرد.

الإسلام الوطني قادر على لم الشمل بين الإسلاميين والعلمانيين لمصلحة الوطن. فالإسلامي والعلماني ينتسبان إلى نفس الوطن. وكلاهما مواطن فى الوطن نفسه. والخلاف الإيديولوجي لا يقضي على وحدة الأصل. فإذا قال الإسلاميون «الإسلام هو الحل» وقال الوطنيون «الوطنية هي الحل»، فعند اليسار الإسلامي «الإسلام الوطني هو الحل».

 

*كاتب ومفكر مصري

back to top