بيت الطاعة رواية تأليف: منيرة السبيعي الدار العربية للعلوم ناشرون
سليم نكدتزوّج ابراهيم وهو رجل أعمال ثري وسليل عائلة فخورة بنسبها وتراثها بنورة الأستاذة في ثانوية رسمية، متوسطة الحال، على جانب كبير من الاناقة والجمال، زواج حب. لكن بعد ولادة ابنتهما لارا بدأ الملل يتسرب الى حياتهما فلا زهو ولا بهجة بعد ولا شيء يذكر بفترة الحب السابقة، بل رتابة وتوتر. حتى المدينة الرياض التي كانت ساحرة بجمالها، عابقة بالعطر، تختال أميرة في الصحراء، متشوقة تنتظر محبوبها المطر ليشرق جمالها وتزهو نضارتها، فقدت الآن سحرها فكأن جمالها كان انعكاساً لجمال الحب وصفائه في قلبيهما. وعندما بدأ الحب يذوي ذوى معه كل جمال في الداخل والخارج، في المحيط القريب والمحيط الأبعد، بل في الحياة كلها. أمضت نورة أياماً وهي في حالة اضطراب شديد، لا يهدأ لها بال ولا يغمض لها جفن، يضجّ في قلبها الفراغ وتملأ نفسها الوحشة. جمالها الباهر الذي كان أنشودة على شفاه زميلاتها ومعلّماتها بدأت تشعر بأنه يفارقها قبل الأوان. انها في حيرة ولا تكفّ عن التساؤل: ماذا يحدث؟ ما الذي تغيّر؟ من تغيّر أنا أم هو؟ وإذ تستعيد بأساً فترة الحرب والإعجاب التي انقضت وتلتفت الى واقعها الجديد تنتفض غضباً وثورة وتزداد حيرة وتساؤلاً: هل يُعقل هذا؟ أإلى هذا الحد وقعت ضحية خداع؟ أيهما الحقيقي والصحيح: ما كان؟ أم ما هو كائن الآن؟ هل هذا هو ابراهيم ذاته أم هو شخص آخر؟
تفيق نورة في صباح أحد الايام مرهقة لا تقوى على الذهاب الى عملها فتستسهل تناول هاتف زوجها إذ نسيت ان تشحن هاتفها، لتتصل بإدارة المدرسة وتعتذر عن الحضور فتفاجأ إذ تلاحظ على شاشة هاتف زوجها، وهو ما يزال نائماً، وجود رسالة غرامية من امرأة غريبة، فتشتعل في نفسها الغيرة وتدرك سبب الفتور والتوتر في تصرفاته نحوها وتنظر الى ماضيها ومستقبلها ومصيرها من خلال هذا الواقع الجديد وتزدحم في نفسها الاسئلة وتتضارب الانفعالات المتناقضة: أواقع أم وهم ما أراه؟ أإلى هذا الحد الكذب والخداع؟ أكلّ كلام الحب والاعجاب الذي كان يغمرني به كان زيفاً ودجلاً؟ لعلّ الرسالة أرسلت خطأ؟ لكن بالاضافة الى الرسالة هناك مكالمات مشبوهة صباحية ومسائية. ما كان شكاً اصبح عندها يقيناً: ابراهيم على علاقة بامرأة اخرى. انه يرتكب خيانة فكيف تتحمل هذا الواقع الذي ما كان ليخطر على بالها وهل يمكن بعد ذلك ان تبقى معه تحت سقف واحد؟ربابها هي تلجأ الى صديقتها رباب، لعلها تساعدها على إيجاد حل او على الأقل تصارحها بالامر فتخفف عنها وطأة الصدمة. تقول لها: اغتال ابراهيم مشاعري فتدعها صديقتها تفرغ ما في صدرها مصغية اليها باهتمام إذ وجدت انها، في الاعتراف اليها، ترتاح بعض الراحة.عبثاً يحاول زوجها ان يعيد الامور الى وضعها الطبيعي، وإذ يتأكد انها اكتشفت أمره، يحاول ان يقنعها بأنها علاقة عادية عابرة يجب ألا تعلّق أهمية عليها، وأنها هي زوجته الوحيدة التي تملأ حياته ولا شريكة لها في قلبه، ولكن نورة فقدت ثقتها به وكلما حاول تبرير نفسه تزداد قناعة بانه مخادع وتتضح لديها اكثر فأكثر تحولات في تصرفاته وعلاقات مشبوهة في مجالس تثير الريبة تقدّم المسكرات وترتكب فيها المحرمات.وإذ يسافر ابراهيم الى الخارج كعادته كل سنة لتمضية إجازته في بلد أجنبي ترفض زوجته ان ترافقه وتستعين بأخيها «ماجد» ليقنعه بأنها لن تسافر بحجّة انها مشغولة في إعادة ترتيب البيت وتغيير الأثاث.ظلت نورة في غياب زوجها في مهب العواصف، تتقاذفها امواج من المشاعر المتناقضة: الرغبة في الانتقام لكرامتها الجريحة، الحب، الغيرة، الشعور بالوحشة والفراغ رغم إحاطة صديقاتها بها ولقاءاتهنّ وإسداء النصائح لها وهي كذلك آراء متضاربة، متناقضة باختلاف المزاج والتربية وتجارب الحياة... فتزداد حيرة واضطراباً. لم ينقطع زوجها عن مكالمتها ولكن العتاب والتوتر وفقدان الثقة كانت تشوب لهجتها. لم تنطفئ جذوة الحب في قلبها، بل مازجتها نار الحقد والغضب والغيرة ولم يندمل الجرح في قلبها، بل كانت تنكأه سورة الانتقام. انها غير قادرة على النسيان وغير قادرة على الغفران. صراع بين العقل والقلب وصراع داخل القلب ذاته. هل تحب أم تبغض؟ انها تحبّ وتبغض في آن واحد.في بعض اللحظات كانت تحدّثها نفسها بأن تلحق بزوجها إذ يتراءى لها انه نادم على فعلته وأنه مشتاق اليها وأن غيابه عنها لا بدّ من ان يوحشه كما أوحشها. ها هي بالفعل تبلغه انها اشترت بطاقتي سفر لها ولابنتها للحاق به، لكن جوابه كان قاطعاً وصاعقاً: لا! لا تحضري، إبقي في الرياض الى حين عودتي... أنا لستُ على هواكِ... أنا رجل له كرامة... تحملي نتيجة ما قمتِ به.فتنكفئ الى ذاتها وتحاسب نفسها بقساوة ومرارة. لقد وضعت ثقتها بمن لا يستحق وها هي تخسر كل شيء.تتلقى نورة نبأ وفاة زوج إحدى صديقاتها فتهبّ هي وصديقتها عزيزة وتذهبان لزيارتها ومؤاساتها... بخروجهما المفاجئ نسيت عزيزة هاتفها المحمول الخاص بمكالمات خطيبها تركي فطمأنتها نورة بأنه محفوظ لديها وأنها تستعيده عند رجوعهما الى البيت. في هذه الأثناء ولسوء حظ نورة، قطع ابراهيم سفرته وعاد فجأة فلم يجد زوجته في البيت. وجد الهاتف المحمول الخاص برفيقتها عزيزة وفيه رسائل حب بينها وبين خطيبها تركي فظنّ انه هاتف زوجته وتأكد من الرسائل انها على علاقة برجل اسمه تركي. وإذ عادت الى البيت لتبحث عن الهاتف تفاجأ بزوجها قائلاً لها: لا تضيعي وقتك بالبحث عنه فهو معي يا عاهرة ويهوي عليها ضرباً وركلاً وشتائم حتى تقع مغشياً عليها.ها هي في المستشفى وفي حالة غيبوبة. انها تحلم بأنها تطير وتحلّق عالياً وإذ تنظر الى اسفل ترى بيتاً كانه بيتها الحقيقي. وإذ تستعيد وعيها تروي لأشقائها حقيقة ما جرى فيتعاطفون معها وتتاكد لهم براءتها وأنها ضحية الظلم والاستبداد وسوء الظن، خاصة ماجد الذي كان دائم العطف عليها وكانت وافقته على بناء بيت جديد لها إثر ارتفاع الاسهم التي تملكها في احدى الشركات الاميركية.يهمّ ماجد بمغادرة المستشفى والدموع تملأ عينيه والتوجه للقاء ابراهيم وإخباره بالحقيقة، تناديه نورة وتقول له: أخبره بأني لن أعود اليه واني أطلب الطلاق.ها هي وشقيقها ماجد يتفقدان أساس المنزل الجديد. يسألها: هل أعجبك الأساس؟ تشكره وتقول له : أتى أمر هذا البيت في الوقت المناسب.عبثاً كان يحاول ابراهيم ان يرجع نورة اليه بواسطة أخيها ماجد. في جوابها له تقول: بطلاقي منه تسلّمت مفاتيح بيت الطاعة الذي شيّده حولي... ابراهيم دفعني الى ما خشيته لسنين، فتح لي بوابة للخروج الى الحياة لن أغلقها أنا الآن. إذا سألك عني ثانية فقل له: نورة ولدت حرة... وإذا رغبتَ بها فتعلّم الحلم والطيران.اللون المحلّي والبعد الانساني هذه بخطوطها الرئيسية قصة منيرة السبيعي «بيت الطاعة». قصة سعودية في إطارها الجغرافي وفي شخوصها والعادات والسلوك وفي طبيعة الأحداث والازمات التي تعصف في النفوس. المكان مدينة الرياض، والشخصيتان الرئيسيتان هما الزوجان ابراهيم ونورة. الشخوص الثانوية تكاد تقتصر على أشقاء نورة وصديقاتها. أما الحوادث الخارجية فتكاد لا تذكر فالصراع في نفس كلّ من الشخصيتين الرئيسيتين يسيّر القصة بشكل تدرجي وتطور طبيعي حتى بلوغ النهاية، من دون مفاجآت او خروج على المألوف. القصة من هذه الناحية أشبه بالمآسي الكلاسيكية في غلبة الحالات النفسية على الأوصاف والحوادث الخارجية وهي، إمعاناً في الشبه، تكاد تراعي الوحدات الثلاث، وحدة العمل: اكتشاف خيانة زوجية وتطور انعكاساتها على الطرفين، ووحدتي الزمان والمكان: زمان القصة في قسمها الرئيسي لا يتعدى بضعة أيام، ومكانها يكاد لا يتعدى البيت الزوجي.تبدأ القصة بفضيحة يكشفها هاتف محمول وتنتهي بتهمة باطلة سبّبها هاتف محمول. تبدأ في «بيت الطاعة» وتنتهي في «بيت الحرية». هذا البناء البسيط والمحكم يجعلها شبيهة بمسرحية. وبالفعل يسهل نقلها الى المسرح بتحويل الاسلوب السردي غير المباشر الى أسلوب حواريّ مباشر.القصة ذات لون محلّي واضح المعالم كما أشرت سابقاً: المدينة وشوارعها والمقاهي والعادات والتقاليد وطبيعة العلاقات الاجتماعية وهواجس الفتيات في جوّ محافظ. الرجل دائماً على حق والمرأة دائماً على خطأ: للمال والجاه والنسب سلطان قاهر...هذا اللون المحلّي الشديد الوضوح يمنح القصة عناصر الحياة إذ يجذّرها بأرض الواقع ويبعدها عن العموميات ومواقف الوعظ والأفكار المجردة التي كثيراً ما تعدم الحياة في القصة فتصبح وسيلة لنشر الأفكار.النفور والعداءلكن القصة التي نحن بصددها لا تقتصر على اللون المحلّي ولا تقف عنده فهي تتضمن بعداً اجتماعياً يشمل قضايا المجتمع العربي بشكل عام والمجتمعات الشرقية بشكل أعمّ، كما انها تتضمن بعداً إنسانياً شاملاً إذ تتناول الحياة النفسية لدى المرأة والرجل وتعقد العلاقات في ما بينهما وتحوّلها من حال الى حال وأثر التربية في سلوكهما والصراع بين الواقع والخيال، بين حاجات الحياة اليومية ومتطلباتها وبين الحاجة الى إشباع جوع روحي تعجز الوسائل المادية والعلاقات الجسدية عن إشباعه. كما تطرح مأساة العلاقات الانسانية وكيف تبدأ حارّة متوهجة يلوّنها الخيال بأجمل الالوان... ثم كيف تبهت وتنحلّ ويتسلل اليها الملل والسأم، بل النفور والعداء. تبقى القضية المحورية: حق المرأة في الحرية وإثبات شخصيتها من دون أن تضحّي بكرامتها وواجباتها... كلها قضايا تنطلق من مجتمع معيّن هو في حاجة الى نضال طويل وقاس في هذا السبيل، لكنها تتخطى حدود البيئة والزمان والمكان لتطرح وضعاً انسانياً شاملاً.لعلّ أنجح ما في رواية «بيت الطاعة» هذا التجسيد للصراع داخل نفس كل من الزوج والزوجة، وخاصة هذا التنازع بل التمزق في نفس نورة بين ماضيها وحاضرها، بين صورة الرجل في خيالها، عاشقاً ومعشوقاً، والرجل في ممارساته الواقعية العملية، في أنانيته وأطماعه وحبه للتسلط حتى سحق شخصية شريكة حياته، إذ يعطي لنفسه الحرية والحق في أن يفعل ما يشاء وينكر عليها أيّ نصيب من الحرية والحق... لكننا نلمح في سياق القصة أن في صميم هذه الانانية وهذا التجبّر شعوراً بالضعف والنقص والفراغ يحاول الرجل ان يملأه او يعوّضه... ثم يستوقفنا هذا الانشطار في نفس المرأة، من مشدة الصدمة وعنف الانفعال الى شطرين: ذات ضحية تتلقى الواقع المفجع وترزح تحته حتى الانسحاق، وذات تحاول ان تستجمع بقية من قواها، تفكر وتحاسب وتحلل لتستوعب ما هو حاصل وتخفف من وقعه.الى جانب هذه الخطوط الرئيسية تطالعنا لمحات وإشارات خاطفة إنما حيّة من صور المجتمع الشرقي بعامة والخليجي بخاصة، المتأرجح بين العادات والتقاليد القديمة والحياة العصرية التي انفتحت له رحيبة بمصراعيها وبسرعة لم تمكنه من استيعابها والسيطرة عليها والتكيف معها بشكل طبيعي فالتبس الأمر عنده بين الوسيلة والغاية. فطرة بدوية انبهرت بوهج حضارة مادية دخيلة.بواقعية إذاً وثقة وطبعيّة تنطلق قصة «منيرة السبيعي» وتستمر هكذا بنفس متساو في مراحل سياقها حتى النهاية. لا خوارق ولا تحدّ للواقع والمنطق ولا تكلف إغراب وتخطّ للواقع كما نشهد في الكثير من القصص العصرية التي غالباً ما يكون جوّها الغرائبي مفتعلاً او منسوخاً وممسوخاً.أما الاسلوب فمنسجم مع جو القصة، مجار لواقعيها، يعتمد التعبير الصريح والمباشر بلا مداورة ولا رموز ولا تكلف في التعبير مقتصراً على الضروري من اساليب البيان، وهو الى ذلك سلس، نابض بالحياة.تنضمّ رواية «بيت الطاعة» بجدارة الى الادب النسائي الحيّ والجريء في معالجة مواضيع من صميم الواقع.تذوّق«حلمت البارحة كأنني على وشك ان اطير وأحلق عالياً في الفضاء بلا أجنحة. كانت هذه النوعية من الاحلام تراودني احياناً قبل الزواج، وبعده مرة او مرتين تقريباً، إثر انفراج الازمات، ولكنها انقطعت عني تماماً مؤخراً مع انها تُسعدني حيث تعطيني إحساساً بانطلاقة الطير. المهم رايتني في المنام هكذا، وقد كنت مترددة قليلاً. منعني الخوف من السقوط فيما لو طرت، والخشية من ألا أتمكن من الهبوط أرضاً اذا ما رغبت في ذلك؛ فتمالكت نفسي وسيطرت على مخاوفي. وفي النهاية دفعت نفسي بإصرار وقوة حتى صعدت عالياً بعيداً في السماء. نظرت من علوٍ الى الاسفل فإذا بي أرى كأنه بيتي الحقيقي، ولكنه بدا صغيراً وقديماً. وعن بُعد لمحت لارا تلوح لي بيدها وتبتسم. بدت كأنها في السنة الثانية من عمرها بالكاد تخطو بضع خطوات. كنت سعيدة بالطيران، لكن وجهها الجميل ناداني؛ فهبطت بهدوء، ثم اقتربت منها، فاذا بها تركض وتركض نحوي؛ لتقع في أحضاني. أفقت بعدها، وأنا أعانقها.قصّت نورة منامها لماجد، وهي تقف معه أمام أساس المبنى الخاص بمنزلها الجديد، تتأمل في البعيد وهي تحكي، وتراقب لارا التي كانت تلهو ببعض قطع من الطوب المرصوص امامها.«لو كانت رباب هنا لفسّرت لي الحُلم. تركت فراغاً برحيلها». قالتها لماجد الذي كان يستمع اليها في صمت، ثم اضافت:«قرأت في تفسير ابن سيرين للأحلام ان من طار في المنام من اسفل الى علو بغير جناح نال أمنيته، وارتفع بقدر ما علا، فإن طار كما تطير الحمامة في الهواء نال عزاً، وقد كنت انا كذلك في حُلمي؛ فهل نِلت أمنيتي يا تُرى؟!».