أنابوليس: التناقض الثانوي يطغى على التناقض الأساسي!
السياق المضمر لمؤتمر أنابوليس هو حشد الدول العربية في عملية بروتوكولية وليست دبلوماسية مع إسرائيل لإعطاء الانطباع بأن عملية السلام تسير إلى الأمام؛ وهو ما يوفر الأجواء لتشديد الحصار على طموحات إيران الإقليمية.يكثف مؤتمر أنابوليس اللحظة الراهنة في المنطقة بكل ما تعكسه من توازنات إقليمية؛ وتقاطعات في المصالح بين دولها وتناقضات بين فرقائها السياسيين. يعلم جميع المشاركين المطلوب منهم أميركياً وهو الاصطفاف إقليمياً في مواجهة إيران. وللوصول إلى هذا الهدف تشارك العواصم العربية الفاعلة في «همروجة أنابوليس»، التي يعرف كل المشاركين من قبل أن تبدأ أنها لن تسفر عن شيء ملموس لحلّ القضية الفلسطينية، أو حتى وضعها على سكة الحل بالحد الأدنى من الحقوق والمطالب العربية، لم يكن السياق الإقليمي في منطقتنا واضحاً مثلما هو اليوم، والاستقطاب الذي تتنفّسه المنطقة الممتدة من العراق حتى غزة مروراً بسورية ولبنان يبدو كأنه لم يعد قابلاً للتجسير أو التلطيف.كان متوقعاً أن تتسابق الدول العربية المنضوية في «محور الاعتدال» إلى إعلان مشاركتها في المؤتمر -بعد تمنع وإحجام إعلاميين- بالرغم من وضوح المغزى من مؤتمر أنابوليس وغرضه الإقليمي، ولكن اللافت في هذا السياق أن دمشق التي تعتبر نفسها عضواً فاعلاً في «محور الممانعة»؛ قد سارعت بالإعلان هي الأخرى عن مشاركتها لمجرد وعد بإدراج مسألة الجولان على جدول أعمال المؤتمر.يرجع التسابق السوري نحو أنابوليس إلى حسابات دمشقية مفادها أن خسائر المشاركة في مؤتمر محكوم عليه سلفاً بالفشل تهون في مقابل المزية الأساسية المتولدة عنه، وهي أن العزلة الدولية والعربية التي تعيشها دمشق منذ سنة على الأقل ستنفكّ بمجرد المشاركة في المؤتمر، وجاء حشر فقرة الحديث عن الجولان في جدول الأعمال لتضمن مشاركة سورية، وبالتالي أيضاً الجامعة العربية في أعمال المؤتمر، وهو ما يضمن نجاح المؤتمر من المنظور الأميركي، فالحسابات الأميركية في أنابوليس تريد تصليب التحالف الإقليمي ضد إيران وتدشين حملة علاقات عامة واسعة لمصلحة الرئيس بوش؛ لمساعدته في الخروج من ورطاته المتعددة في المنطقة، أما الطرف الفلسطيني الذي يمثله رئيس السلطة محمود عباس والغارق في صراعه مع حركة «حماس»، فيرى أن المشاركة في مؤتمر دولي عن القضية هو أمر إيجابي بحد ذاته، خصوصاً في ضوء الخلل بموازين القوى بين العرب وإسرائيل، وتبقى المشكلة المطروحة هي أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت استبق المؤتمر بمطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة، وهو ما يعني من منظور القانون الدولي أن حق العودة للاجئين قد تم شطبه، وأنه حتى العرب الفلسطينيون سكان الأراضي التي احتلت عام 1948 سيصبحون –في حال الاعتراف- مجرد أقلية شاذة عن الطابع العام للدولة. يتضمن جدول أعمال المؤتمر في شقه الفلسطيني بنداً واحداً هو استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وكأن المفاوضات قد صارت هدفاً بحد ذاتها وليست وسيلة لاستعادة الحقوق أو نقل الصراع على الأرض إلى مقارعة على طاولة المفاوضات.المشكلة ليست في المؤتمر بحد ذاته، ولكنّ المشكلة تكمن في غياب الرؤية العربية لسبل حل مجمل الصراع في المنطقة، وبالتالي انعدام الخطة عما هو مطلوب من المؤتمر بعيداً عن عدسات المصورين والمصافحات البروتوكولية التي تنتظر المشاركين، صحيح أن موازين القوى بين العرب وإسرائيل مختلّة ولا تسمح حالياً بحلّ يقوم على أساس دولة فلسطينية في حدود الرابع من يونيو 1967، وصحيح أيضاً أن الحسابات القطرية الخاصة بكل بلد تدفع نحو المشاركة في المؤتمر تحقيقاً لمصالحه، وهو ما ينطبق على مصر والسعودية والأردن ولبنان وسورية. ولكن بالرغم من كل ذلك كان من الأصوب أن تطالب الدول العربية المعتدلة واشنطن بإبداء «مرونة» في الموضوع الفلسطيني والضغط على الطرف الإسرائيلي لخوض مفاوضات جدية على الأقل، وليس فقط مجرد المشاركة مع العلم بالنتائج لمجرد حسابات تتعلق بتمتين تحالفها مع واشنطن التي على الرغم من أنها قطب النظام الدولي الراهن، فإنها بحاجة إلى الدول العربية المعتدلة لتمرير سياستها الإقليمية. لا يكفي التذرّع بموازين القوى المختلّة لغسل اليد من القضايا ورفع شعار: «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، ولو كان الاختلال قدراً لما تعدلت الموازين ولما تغير التاريخ. السياق المضمر لمؤتمر أنابوليس هو حشد الدول العربية في عملية بروتوكولية وليست دبلوماسية مع إسرائيل لإعطاء الانطباع بأن عملية السلام تسير إلى الأمام؛ وهو ما يوفر الأجواء لتشديد الحصار على طموحات إيران الإقليمية. وبالرغم من كل التحفّظات التي يمكن أن تكون لأي منا على السياسة الإيرانية في المنطقة، فإن التناقضات في المصالح بين العرب والإيرانيين ليست سوى مثال للتناقضات الثانوية التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني هيغل في ديالكتيكه الشهير، أما التناقض الأساسي في المنطقة بين العرب وإسرائيل فسيبقى أيضاً بعد مؤتمر أنابوليس من دون حل.* كاتب مصري