ميركل في إسرائيل بين المسؤولية التاريخية والانحياز
على الرغم من أن الصخب الإعلامي الإيجابي في ألمانيا حول زيارة ميركل إلى إسرائيل، فلن يرتب خروجها غير المبرر عن المقاربة المتوازنة سوى تراجع أهمية دور برلين في نظر الفلسطينيين والعرب، ومن ثم انكماش مساحات حركتها واعتبارها محض تأييد صارخ لإسرائيل، ولن تستفيد المستشارة كثيراً من إعلانها اعتزام ألمانيا تنظيم مؤتمر دولي حول السلام في الشرق الأوسط.تحظى المستشارة أنجيلا ميركل بقبول شعبي واسع النطاق داخل المجتمع الألماني وتتمتع أيضاً، على خلاف سلفها غيرهارد شرويدر، بثقة الولايات المتحدة والدول الكبرى داخل المنظومة الأوروبية. وفي حين يرتبط الرضاء الشعبي الداخلي بتحسن أداء الاقتصاد الألماني بعد سنوات من الركود وتراجع معدلات البطالة، تستند الثقة الدولية بميركل إلى اتباعها سياسة متوازنة سواء تجاه واشنطن أو تجاه قضايا الاتحاد الأوروبي وملفات السياسة الخارجية الرئيسية.فقد تجاوزت المستشارة مرحلة شديدة السلبية في العلاقة الأميركية-الألمانية تبلورت في سياق معارضة المستشار السابق شرويدر لغزو العراق ومن ثم نجحت في التنسيق مع إدارة بوش حول العديد من القضايا كان من أبرزها في الآونة الأخيرة إدارة الملف النووي الإيراني واستقلال كوسوفو والاعتراف الدولي بها. أعادت ميركل كذلك الهدوء لدور برلين داخل المنظومة الأوروبية فانفتحت على بريطانيا بعد سنوات من التوتر وأعطت دفعة إيجابية للعلاقة مع دول أوروبا الشرقية والوسطى وتعاطت بجدية مع قضية انضمام تركيا للاتحاد على الرغم من تحفظات حزبها المسيحي الديموقراطي. كما برز نشاط الدبلوماسية الألمانية في إدارة أزمات الشرق الأوسط على نحو أسهم بوضوح وبالتنسيق مع بريطانيا وفرنسا (الترويكا الأوروبية) في تجنيب المنطقة شبح المواجهة العسكرية بين الولايات المتحدة وإيران وإدارة ملف الأخيرة النووي بمزيج من العقوبات الدولية وجولات الحوار والوعود التحفيزية. وعلى الرغم من محدودية الفاعلية والاهتمام الألماني التقليدي بالمصالح التجارية والاقتصادية، بدت سياسات ميركل تجاه معظم الدول العربية وتجاه أزمات لبنان وفلسطين المستمرة متوازنة ومنفتحة بإيجابية. من هنا شكلت مواقف وتصريحات ميركل خلال زيارتها إلى إسرائيل الأسبوع الماضي انتكاسة واضحة وارتداد إلى سابق الانحياز الألماني الطاغي للدولة العبرية والتجاهل شبه التام للحقوق الفلسطينية والعربية. قدمت المستشارة، التي خطبت بالكنيست وترأست مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت جولة الحوار الاستراتيجي الألماني-الإسرائيلي، كامل التأييد للعمليات العسكرية بقطاع غزة وحملت «حماس» بمفردها مسؤولية الأوضاع المأساوية للشعب الفلسطيني واعتبرت كل تهديد لأمن إسرائيل بمنزلة تهديد مباشر لألمانيا واعترفت بالقدس عاصمة أبدية لها دونما إشارة ولو بكلمة واحدة لحقوق الفلسطينيين أو لمشروعية حلم الدولة الفلسطينية، ولمخاطر سياسات التوسع الاستيطاني ومسؤولية حكومة أولمرت عن تعثر مفاوضات الحل النهائي مع الرئيس عباس والمماطلة المستمرة فيما يتعلق بتخفيف قبضة الاحتلال الأمنية على مدن الضفة الغربية. بل لم تتصل ميركل، وعلى خلاف ما استقر كعرف دبلوماسي غربي حين زيارة مسؤولين سياسيين لإسرائيل، بالرئيس عباس وكأنها أرادت أن تختزل القضية الفلسطينية في صواريخ «حماس» وحق إسرائيل المشروع في الدفاع عن النفس.أتفهم الخصوصية التاريخية والسياسية للعلاقة الألمانية-الإسرائيلية ومسؤولية برلين النابعة من جريمة الهولوكوست وعذابات اليهود في النصف الأول من القرن العشرين، بل أدرك أن مثل هذا الأمر لا يسقط بالتقادم أو بعد كل ما قدمت ألمانيا (الغربية السابقة) خلال العقود الماضية من تعويضات ودعم عسكري ودبلوماسي لإسرائيل. بيد أن ذلك لا يرتب حتماً التخلي عن مطلق التوازن حين التعاطي مع قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي أو الاندفاع نحو تأييد سياسات تنتقدها بموضوعية بقية الدول الغربية وتعترض عليها قطاعات واسعة داخل الشعب الإسرائيلي. فإدارة بوش، وهي من هي في باب الانحياز لإسرائيل وتجاهل الحقوق الفلسطينية، انتقدت أكثر من مرة في الآونة الأخيرة سياسات الاستيطان وشددت على تداعياتها السلبية على مفاوضات السلام. كما أن أغلبية واضحة من المواطنين الإسرائيليين (ما بين 50 و60 في المئة وفقاً لاستطلاعات الرأي العام الأخيرة) ترى بالاستيطان والمستوطنين عقبة كبرى أمام حل سلمي للصراع مع الفلسطينيين. وواقع الأمر أن بعض المستشارين السابقين، خاصة هيلموت شميت وهيلموت كول وغيرهارد شرويدر، قد نجحوا في الحفاظ على العلاقة الخاصة مع إسرائيل في سياق سياسة معتدلة مكنت ألمانيا من تطوير علاقات إيجابية مع الفلسطينيين وأزالت عقبات اعترضت مراراً التقارب العربي مع قاطرة الاتحاد الأوروبي.وعلى الرغم من الصخب الإعلامي الإيجابي في ألمانيا حول زيارتها، فلن يرتب خروج ميركل غير المبرر عن المقاربة المتوازنة سوى تراجع أهمية دور برلين في نظر الفلسطينيين والعرب ومن ثم انكماش مساحات حركتها واعتبارها محض تأييد صارخ لإسرائيل. هنا لن تستفيد المستشارة كثيراً من إعلانها اعتزام ألمانيا تنظيم مؤتمر دولي حول السلام بالشرق الأوسط في لحظة تفتقد بها معظم الأطراف ولأسباب مختلفة الثقة في إمكان الاقتراب من حلول سلمية.* كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي – واشنطن