المخرج طلال درجاني: حلم رجل مضحك تكشف تناقضات الذات
ظل المخرج طلال درجاني يعمل لإنجاز مسرحيته «حلم رجل مضحك» المأخوذة عن رواية الروسي دوستويفسكي وذلك نظراً الى صعوبة الموضوع وأهمية الفكرة.
نال درجاني شهادة دكتوراه في الإخراج وهو استاذ في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية في بيروت. التقيناه وكان الحوار التالي:«حلم رجل مضحك» رواية بسيطة ومعقدة في الوقت ذاته؛ إذ تحوي شخصية مركبة تمر في تحولات كثيرة، كيف هي رؤيتك الاخراجية لمقاربة تلك الشخصية؟ الرؤية الإخراجية لمسرحية «حلم رجل مضحك» تتمحور في مقولة: يولد الشر ومن ثم يولد الإنسان معه. وهذا هو المضحك شكلاً ومضموناً عند دوستويفسكي وهو عبقري وفيلسوف ومبدع في أساليب موت شخصه انتحاراً. وبعبقريته عمل على تطوير دروس ومناهج الشر. يسمونه المجنون، يعطف على الناس عندما يسخرون منه. وحده يعرف حقيقة الوجود في الحياة، عالم دوستويفسكي مليء بالتناقضات وهذا واضح من خلال شخصية «الرجل المضحك». نرى كيف تتغلغل فكرة الهروب من الأرض إلى المريخ. هروب من النسيج النفسي والروحي للشخصية. والصراع الدائم لاعتقادها الراسخ بحاجة الإنسان إلى الندم والتوبة. ما الأهمية المتوخاة من طرح هكذا موضوع اليوم لا سيما وأن الحالة في لبنان لا تشجع كثيراً على المغامرة بعمل من هذا القبيل؟ أهمية الموضوع اليوم تتمحور حول كيفية تفكير هذا الرجل المضحك. فهو يؤمن بأنه وحده يستطيع أن يزيل العالم او يطفئه بقرار منه. كم هو معاصر دوستويفسكي عندما يطرح على نفسه فكرة غريبة وهو يحلم: لو إنني أعيش على القمر أو المريخ. هذا الهروب ليس من عذابات الأرض فحسب، بل لأنه يريد تدمير الفضاء أيضاً. الأرض لم تعد تتسع لشره، أراد تطوير مشاريعه الشريرة إلى مساحات إضافية . كيف استطعت كشف الحالة الداخلية للشخصية ؟ في مسرحية «حلم رجل مضحك» لن نتوقف عند تصوير وكشف الحياة الداخلية للشخصية فحسب. يمكننا أيضاً أن نكشف التناقضات التي تعصف بالذات الإنسانية وتشحذ الوعي المتنامي بحدوث شرخ أو انفصام يؤججه الصراع النفسي داخل الشخص وفي أعماق النفس البشرية. وصحيح ما قاله نيتشه بهذا الصدد عن دوستويفسكي بأنه: «عالِم النفس الأوحد الذي تعلمت منه شيئاً». تردد مراراً الرجل المضحك قبل قتل نفسه، لكن أخيراً غلبه قراره الإجرامي الداخلي. عظيم دوستويفسكي كيف طور الحلم، بعودة الرجل المضحك إلى الحياة.كيف قرأت تفسير دوستويفسكي للشخصية الرئيسة في روايته وكيف تعاملت معها؟ رسم دوستويفسكي شخصية الرجل المضحك من الفضاء بجمالية كبيرة لمعاناته للحب وما رآه من الكوكب بوصفه للأرض التي تركها. كل هذه العذابات أجبرته على البقاء على الكوكب. وعندما تأكد أنه لا مجال للعودة لتلك الأرض التي هجرها بإرادته أخذ يتعرف على ناس الكوكب، أدرك وفهم أن أرضهم لم تدنسها خطيئة السقوط الأولى، تأكد أنها الجنة، تذكر الأساطير الإنسانية كلها، أخذوه إلى بيوتهم، طمأنوه، حاولوا أن يزيحوا مسحة العذاب عن وجهه. صراع الخير والشر فى الرواية واضح من خلال التقابل بين عالمين: الأرض والفضاء، حيث طار الرجل المضحك في حلمه الى أحد الكواكب، فكيف تصف هذا التقابل والاختلاف؟ فلسفة الصراع عند دوستويفسكي بين عالمين الأول حقيقي والثاني نسجه من خياله العظيم. ولكنه أكثر حقيقة. وهذا يظهر من خلال تصوير حلم مثالي، بكل أبعاده وحقائقه الإنسانية على الكوكب المختلف عن الأرض بمفهوم المعرفة.وكلما تعرف الرجل المضحك على هؤلاء الناس كلما تعاظم جنونه وحسرته على ناس أرضه وما فعله بهم وكلما غاص بعالمهم الإنساني كلما زادت فضائح الشر في داخله. وبعد هذا التناقض الكبير بين الخير والشر استيقظ الرجل المضحك من حلمه ورأى الجميع يضحكون أمام عينيه ويؤكدون أنه من المستحيل أن يرى الحالم كل هذه التفاصيل. هذا ما زاده جنوناً؛ لأنه متأكد أن ما حصل حدث معه، إضافة إلى ذلك اتهموه بالجنون. هذا الشك الكبير والضعف الحاصل في شخصه من عودة نظام الشر إلى عالمه أجبره على أن يفصح عن سر، وهو أنه من الممكن ألا يكون ما رآه حلماً على الإطلاق. تناقض مرعب يبينه دوستويفسكي درامياً في شخصية الرجل المضحك ويجعل شخصية الحالم في قلق مستدام، لإنسان مشوب بالعاطفة. الصراع القاسي جداً مع قلبه جعله يعترف بالحقيقة الكاملة وبثقة يعدم نفسه: «نعم إنتهى الأمر بأن أفسدتهم جميعاً» وتوقف قلبه وشعر بأنه سيموت على الكوكب. في تلك اللحظة استيقظ من جديد ولمع المسدس أمامه وبلمحة دفعه بعيداً عنه ودعا بصوت عال للحياة .ماذا عن العناصر الأخرى فى المسرحية كالممثلين والسينوغرافيا والموسيقى؟ يؤدي شخصية الرجل المضحك الممثل حسام الصباح، وإلى جانبه شخصية الأم تؤديها الممثلة سندرا ملحم، وهي الشخصية الصامتة أيضاً والتي تقوم بفعل الاحتضار كل فترة العرض حيث تشكل بجسدها الموت والفرح معاً وتناقضات فكرة العرض كلها. تخرج سندرا من الموت أحياناً للحظات وتعود بعدها إلى الإحتضار. شخصيات صعبة ومركبة بلغة وقساوة فكر دوستويفسكي وجنونه. أما السينوغرافيا فتساهم بشكل رئيسي في ترجمة أبعاد الرؤية الإخراجية من خلال تطوير فكرة النص وعصرنتها بأسلوب يحافظ على عالم دوستويفسكي في موضوع المسرحية. تتشكل وتتحول السينوغرافيا وكل الأكسسوارات في لحظة إلى مقبرة مغلقة، مفتوحة. تسيطر بضخامتها على كل فضاء الخشبة ويعود الموت ليصلب الرجل المضحك ورفيق دربه والمرأة على سقف المقبرة، عراة من معاطفهم المعلقة على جدرانها وكأن المعاطف هاربة من أصحابها... والقيامة... قيامة. اما موسيقى العرض فهي من تأليف هتاف خوري.