الأمثال المقارنة... الوجه مرآة القلب
في البدء كان الإنسان واحداً ثم انشطر. تقاسمته الملل والنحل والشهوات والفلسفات والمصالح والعصبيات وأمور أخرى كثيرة، فتباينت ملامحه وتنوعت لغاته وتبعثرت أجزاؤه في الأزمنة والأمكنة كلها. لكن هذا النثار البشري، المختلف جداً في ظاهره والمتشابه جداً في جوهره، مرتبط كله منذ الأزل بحبل سري واحد، يشده إلى نفس الرحم والأصل والمنشأ، لذلك نرى الناس على اختلاف أجيالهم ولغاتهم وبيئاتهم متشابهين في طبائعهم ومشاعرهم وردود أفعالهم ومتفقين في كثير من أفكارهم وأساليب تعبيرهم، ويتجلى ذلك واضحاً من خلال أساطيرهم وآدابهم وفنونهم وأمثالهم.
عالمية الفكرلعل الاتفاق في الأمثال أوضح من سواه في الدلالة على وحدة الجنس البشري وعالمية الفكر الإنساني، لأن بعضها متطابق تطابقاً مدهشاً، وقد يكون ذلك بسبب تبادل الأخذ والعطاء والتأثر والتأثير بين الأمم منذ فجر التاريخ، أو بسبب طبيعة البشر المتقاربة، فالذين يخوضون غمار التجارب نفسها ويحترقون بنيران المآسي عينها ويتقاسمون الحب أو الخيانة أو الفقر، تصطبغ مشاعرهم ونفوسهم بالألوان ذاتها زهواً وحلوكة وقتامة، وتنطق أفواههم بأمثال وحكم تكاد تكون واحدة.وقد فطن أدباء العرب لأهمية الأمثال منذ أمد بعيد، فجمعوا ما ورد عن العرب الأقحاح وعن المولدين، ولعل أفضل ما أُلِّفَ في هذا الباب هو كتاب «مجمع الأمثال» للميداني، ثم عمد بعض المؤلفين إلى جمع الأمثال الشعبية في بعض البلدان العربية وقارنوها أحياناً بمثيلاتها أو شبيهاتها في بلدان عربية أخرى، وألّف آخرون - وهم قلة قليلة - في مجال مقارنة الأمثال الإنكليزية وغيرها بنظائرها في اللغة العربية.من هؤلاء منير البعلبكي مؤلف معجم «المورد» الذي يتضمن مئتي مثل مقارن تقريباً في فصل خاص اسمه «مصابيح التجربة»، وتيسير الكيلاني ونعيم عاشور اللذان ألفا معجم «الأمثال المقارنة»، وكمال خلايلي مؤلف معجم «الجوهرة في الأمثال المقارنة»، وقد بذلوا كلهم جهداً عظيما، وكانوا رواداً ذللوا سبيل البحث لمن بعدهم، لكن كثيراً من الأمثال لم توفَ حقها من البحث والاستقصاء، لأنّ المؤلفين اكتفوا أحياناً بالترجمة، أو بذكر مثل عامي يؤدي معنى المثل الإنكليزي أو بإيراد شاهد فصيح، رغم انه ثمة ما هو أقرب منه إلى معنى المثل المترجم، ولذلك حاولت أن أسد هذه الثغرة ما استطعت، فجمعت عدداً كبيراً جداً من الأمثال الإنكليزية وترجمتُها، ثم أوردت ما ينطق بمضمونها من أشعار العرب أو نثرهم، وتوسعت في القسم العربي من البحث، خصوصاً الشعر، ليكون ذلك نافذة يطل من خلالها القراء الأفاضل على كنوز التراث التي تفيض حكمةً وتشعّ بهاءً، بَيْدَ أنّ عدداً لا يتسع لكل ما جمعتُ، لذلك سأكتفي بتقديم وردة تختصر جمال البستان الكبير وعطره، على أمل أن أقدم ورداتٍ أخرى في أعداد مقبلة. The face is the index of the heart أي «الوجهُ مرآة القلب»ذكر هذا المعنى أو قريباً منه كثير من شعراء العربية وناثريها في العصور كلها ، وفيما يلي بعض ما قالوا:* زهير بن أبي سلمى (? - 13 ق. هـ / ? - 609 م): مَتى تَكُ في صَديقٍ أَو عَدُوٍّ تُخَبِّركَ الوُجوهُ عَنِ القُلوبِ* مجنون ليلى (? - 68 هـ / ? - 687 م): إِذا خِفنا مِنَ الرُقَباءِ عَيناً تَكَلّمَتِ العُيونِ عَنِ القُلوبِ* ابن نباتة السعدي (327 – 405 هـ / 938 – 1014 م): ألا انّ عينَ المرءِ عُنوانُ قَلبهِ تُخبِّرُ عنْ أسْرارِهِ شاءَ أمْ أبى * ابن الرومي (221 - 283 هـ / 836 - 896 م): له مُحيّاً جميلٌ تَستدلُّ به على جميلٍ وللبُطْنانِ ظُهرانُوقلَّ من أضمرتْ خَيْراً طَوِيَّتُهُ إلا وفي وجههِ للخيرِ عنوانُ* القاضي الفاضل (529 - 596 هـ / 1135 - 1200 م): وَمِمّا حَكى أَنَّ القُلوبَ حَزينَةٌ عَلى إِثرِها هَذي الوُجوهُ السَواهِمُ * علي الدرويش (1211 – 1270 هـ / 1796 – 1853 م): إنَّ الوجوهَ على القلوبِ دلائلٌ وبها يُشاهَدُ حالُ من لم يشهدِ * مصطفى صادق الرافعي (1298 – 1356 هـ / 1881 – 1937 م): ينبيكَ ما في وجههِ عن قلبهِ إن الكتابَ لسانهُ عنوانهُ * حفني ناصف (1272 – 1338 هـ / 1856 – 1919 م): مرآةُ ما في قلبها وجهُها فكل شيءٍ عندها مُعلنُ * عبد القاهر الجرجاني في كتابه ( أسرار البلاغة ) أخبرتني أساريرُ وجهه بما في ضميره، وكلّمتني عيناه بما يحوي قلبه.وجاء في كتاب (غرر الخصائص الواضحة وعرر النقائض الفاضحة) للوطواط: «قال أرسطو طاليس: وجهك مرآة قلبك فإنه يظهر على الوجوه ما تضمره القلوب. وقالوا: العيون طلائع القلوب. وقد أولع الشعراء بنظم هذا المعنى كثيراً فمن ذلك قول بعضهم:* إنّ العيونَ لتبدي في نواظرها ما في القلوبِ من البغضاءِ والإحنِ* تريك أعينهم ما في صدورهم إن الصدورَ يؤدّي سرّها النظرُ.