جولة في بازار طهران 1-2 : مركز المال وعصب السياسة في إيران
كانت سياسات الحماية الجمركية علماً على مجمل السياسات الاقتصادية الإيرانية منذ قيام الجمهورية، وبشكل يمكن معه رؤية «مصالح البازار» بيرقاً ينتظم خلفه رجالات الدولة الإيرانية الثورية وعلى اختلاف أصولهم الاجتماعية. ولأن النظم السياسية تمثل مصالح اقتصادية لشرائح اجتماعية بعينها، نجد أن نظامها الحاكم منذ قيام الثورة حتى اليوم مشكل من تحالف يضم رجال الدين مع البازار.تصل أخيراً إلى جنوب طهران حيث بازارها الواقع بالقرب من ميدان الإمام الخميني، وهو الأكبر بين البازارات المنتشرة في المدن الإيرانية الكبيرة. تدلف إلى المبنى المصمم بعناية حسب السلع، تعرف أن معنى البازار أكثر بكثير من مجرد ساحة تراثية لتبادل السلع والخدمات. إذ للبازار، وهي كلمة فارسية دخلت كل لغات العالم للدلالة على السوق، فعله التاريخي في التأثير في البنى الاجتماعية والسياسية في إيران. وإن اختلفت العناوين السياسية والأيديولوجية للحكام الذين تعاقبوا على الحكم منذ القرون الوسطى، فإن سياساتهم الاقتصادية كان لها ترمومتر واحد يقيس حرارتها، هو البازار. يمكنك تقدير قياس شعبية وجماهيرية هذا الحاكم أو ذاك بحسب ارتباطه بالبازار وتمثيله لمصالحه، حيث لا يعني مصطلح مصالح البازار فقط مصالح الشرائح التجارية العليا في إيران. تختار بازار السجاد الإيراني اليدوي هدفاً لزيارتك، ويشكل السجاد العمود الثاني في خيمة الإيرادات الإيرانية بعد النفط، ستلاحظ بخلاف النظام والنظافة اللتين تميزان هذا السوق أن التجار لا ينادون على بضائعهم، أو يلحون على الزوار للشراء مثل المشهد المتكرر في أسواق القاهرة ودمشق أو حتى إسطنبول، فالمكان ليس مقصداً للسياح فقط، بل لكل شرائح المجتمع الإيراني. تصطف المئات من المحلات بجوار بعضها بعضا وكل يعرض بضاعته من السجاد الفاخر في ترتيب وهدوء، تقدر قيمة البضاعة في سوق طهران للسجاد وحدها -حسب أحد كبار التجار هنا- برقم يتراوح بين ثمانية وتسعة أصفار... نعم لم تخطئ قراءة الكلمة: عدة مليارات من الدولارات الأميركية. وتؤدي مجموعة من العوامل دورها في تقدير سعر السجادة، منها الخامات المستعملة في حياكتها مثل جودة الحرير ونوعية صوف الغنم المستخدم، وعدد العقدات في المتر المربع فالسجاد الفاخر يبدأ من نصف مليون عقدة ولا ينتهي عند مليون عقدة في المتر المربع. تعتبر الصورة العامة للسجادة وتناغم ألوانها وتوازن أشكالها من محددات سعر السجادة. وتتبارى المدن الإيرانية في إنتاج السجاد ولكل مدينة تراثها الخاص من الأشكال والخامات، ومحبو السجاد وعارفو قدره يمكنهم بنظرة واحدة تحديد المدينة التي صنعت فيها السجادة. فالسجاد الحرير الخالص مصدره غالباً قم ونائين، والسجاد الرقيق السماكة والفاخر الحياكة مصدره أصفهان، أما السجاد المطهم فموطنه الأساسي هو مدينة كاشان. ولكل مدينة نقوشها ورموزها التقليدية؛ فأصفهان وتبريز تشتهران بنقوش الأرابيسك ويطلق عليها «إسليمي»، أما أصفهان وكاشان فتصميماتهما تفرط في استعمال أشكال الزهور المختلفة وهي التصميمات المعروفة باسم «عباسي». يرتبط قطاع شعبي واسع يقدر بملايين الأجراء الإيرانيين بمصالح التجار في رباط لم تفلح مئات السنين ولا تطور وسائل الإنتاج في فصم عراه، بل يبدو البازار بعلاقات إنتاجه التقليدية حتى اليوم قدراً إيرانياً أصيلاً في إيران المعاصرة. وبالرغم من أن تحليل واقع إيران السياسي هو تحليل لحظي ووقتي دائماً، بسبب التغير الدائم لتحالفات القوى السياسية المختلفة في إيران الجمهورية، فإن شعارات «جمهورية إيران الإسلامية» السياسية وتطوراتها الأيديولوجية لم تجر يوماً بمعزل عن مصالح البازار. استوعب صناع القرار في إيران الثورية بعمق الدروس المستفادة من تجارب بلادهم الكبرى في القرن العشرين، والتي كان البازار قاطرة تحولاتها السياسية. فالبازار التقليدي من حيث بضائعه أو علاقات إنتاجه، والمعادي تاريخياً لنفاذ الصادرات الأجنبية إلى الأسواق الإيرانية، قام بتمويل وإسناد الثورة الدستورية في العام 1905 والثورة الإسلامية في العام 1979 بسبب استسلام السلطة السياسية القاجارية والبهلوية أمام رأس المال الأجنبي ومنتوجاته الصناعية التي زاحمت البازار وضربت مصالحه. كانت سياسات الحماية الجمركية علماً على مجمل السياسات الاقتصادية الإيرانية منذ قيام الجمهورية، وبشكل يمكن معه رؤية «مصالح البازار» بيرقاً ينتظم خلفه رجالات الدولة الإيرانية الثورية وعلى اختلاف أصولهم الاجتماعية. ولأن النظم السياسية تمثل مصالح اقتصادية لشرائح اجتماعية بعينها، وبتطبيق تلك القاعدة على إيران الثورية نجد أن نظامها الحاكم منذ قيام الثورة حتى اليوم مشكل من تحالف يضم رجال الدين مع البازار. ومن وراء الشريكين الأساسيين رجال الدين وتجار البازار يأتي جهاز الدولة ومعه الأذرع العسكرية المختلفة للنظام من قوات نظامية وحرس ثوري (باسداران) ومتطوعين (بسيج)، وهي مصالح تمثل أكثر من نصف الإيرانيين. وبسبب هذه التركيبة السياسية الاقتصادية يمثل النظام الإيراني الحالي –شئت أم أبيت- المصالح الاقتصادية لأغلبية واضحة من الإيرانيين، وبشكل يفوق في شرعيته التمثيلية للمواطنين كثيراً من الحكومات التي تعاقبت على حكم إيران في العصر الحديث.* كاتب وباحث مصري