حديقة الإنسان: نسف الأدمغة

نشر في 18-01-2008
آخر تحديث 18-01-2008 | 00:00
 أحمد مطر

ليس من المفترض لرواية ضخمة ومهمة مثل «نسف الأدمغة» أن تُستعرض، بل ينبغي لها أن تُقرأ، لتبدأ بعد استخلاص متعة القراءة، مهمّة استخلاص العبرة والشروع بالعمل الجاد من أجل إنقاذ مستقبل الوطن والناس.

مع كل عمل جديد للروائي البارع «خيري شلبي» لابدّ للقارئ أن يتساءل: إلى أي نقطة غائرة في باطن الأرض سيمكنه أن يوصلنا هذه المرة؟

ومبعث التساؤل هو أن كثرة أعمال شلبي في هذا الاتجاه توحي بأنه استكمل رسم خريطة العالم السفلي الذي تخصّص فيه، لكنّه يفاجئنا في كل رواية جديدة بأنه لم يلامس السطح، بعد آخر رواية له، إلّا ليأخذ نفساً عميقاً من أجل أن يغوص ثانية في أعماق قاع لا قرارة له.

وعلى الرغم من الاعتياد، فإنه ينجح دائماً في إدهاشنا وإيلامنا معا، عند وضعنا أمام مشهد طازج من مشاهد عوالمه السفلية وكائناتها الغريبة التي نعايشها في أكثر من مناسبة أو مصادفة، لكننا، رغم ذلك، لا نراها. وهو في انصرافه الحثيث نحو قاع القاع في جميع أعماله، إنّما يؤسس لنفسه نهجاً متفرداً لا أظن أن روائياً عربياً أو عالميا قد انصرف إليه كليّة مثله.

وميزة هذا الانصراف هي أنّ شلبي القادر على تزويدنا بالمتعة الحقيقية، لا يقف عند حد إبهارنا بغرابة تلك العوالم التي عرفها وخبرها أو جرّب شخصياً العيش في بؤرتها أو على تخومها، بل هو يلفتنا بقسوة، لابد منها، إلى أن تلك العوالم الغائرة متّصلة اتصالاً وثيقاً ومؤثراً بالسطوح العليا التي تبدو، في الظاهر، عصيّة على التفسخ، وأنها، في غفلة منّا، آخذة بالتمدّد عالياً بحركة صامتة وفاعلة، مثلما تفعل الميكروبات في جسد الإنسان، وأنها سيمكنها في المستقبل، بل المستقبل القريب، أن تجعل السطح نفسه قاعاً لها، حيث يكون «السيف قد سبق العذل» بمسافة أطول كثيراً من كل حبال الندم والأسف!

وإذا كنّا نشير إلى العالم السفلي لدى شلبي باعتباره عالم الكائنات الهامشية ذات الأثر الظاهر في بنية المجتمع الطبيعي القائم على السطح، رغم خفائها أو تخفّيها، فإنّ الكاتب في رائعته الجديدة «نسف الأدمغة» يأخذنا في رحلة إلى عالم سفلي حقيقي بمعنى الكلمة، هو عالم المقابر، حيث يبدي لنا صورة «نسف الأدمغة» على صُعُد متباينة لكنها متجاورة في الوقت نفسه، فالأدمغة المنسوفة هنا هي على السّواء: أدمغة الموتى والأحياء.

وعلى الرغم من أن نسف أدمغة الأحياء يتّخذ في الغالب شكلاً معنوياً، فإنه في أحيان كثيرة يجري بشكل مادي فعليّ، إذا قُدّر لأحدهم أن يعرف أكثر من اللازم عن «صناعة نسف الموتى»، أو أن يتجاوز المعرفة إلى فضح ومواجهة رجال تلك الصناعة.

بطل هذه الرواية، كشأن معظم أبطال روايات شلبي، رجل متصل بالثقافة والصحافة، ولذلك فهو قادر على الإحاطة بالموضوع والتعبير عنه. وإذا كان معظم الأبطال الآخرين مجهولي الهوية مكتفين باسم «فلان» أو «الفلاني»، فإنّ بطل «نسف الأدمغة» صحافي ومبدع له اسمه المعروف وشهرته الواسعة، ربما لأن طبيعة الأحداث والعلاقات بين أشخاص الرواية قد اقتضت أن يكون كذلك. ومع أن اسمه هو «أدهم فتحي» فإن القارئ لا يجد صعوبة في إدراك صورة شلبي نفسه وراء هذا القناع الشفّاف، خاصة أن البطل، كما تعرضه الرواية، مبدع متخصّص في الكتابة عن العالم تحت السفلي.

في ارتياده عالم المقابر، لم يكن «أدهم فتحي» صحافياً متخفيّاً يسعى وراء تحقيق عن هذا العالم، ثم يكتشف بالمصادفة ما هو أكبر من ذلك، بل كان مبدعاً هارباً من تلوّث المدينة بيئة وناساً، إلى مكان هادئ ومنعزل يمكنه فيه أن ينصرف إلى القراءة وإلى التأمل الصوفي، بعيداً عمّا يعكر عليه الخلوة.

وصحيح أن المقابر هي أصلح مكان لخلوة المتأمل، لكنها، في الرواية، لم تكن بالصورة المجردة التي يتخيلها القارئ، فعلى أطراف المقابر كانت تقوم مثابات هي في الواقع قصور حقيقة بناها بعض كبار الشأن في العهود الماضية لتكون استراحات لزوار قبورهم، وفوق ذلك أحاطوها ببساتين حافلة بأندر وأفضل أشجار الفواكه المنتجة. لكن تلك القصور غابت وراء أسوار عالية، وموّهت واجهاتها ببيوت طينية خربة، بعد أن تحولت، بالكتمان أو التزوير، إلى ممتلكات خاصة بالقائمين على شؤون الدفن، وأخفيت حقيقة وجودها حتى عن الورثة الذين مازالوا على قيد الحياة! في واحدة من هذه الجنان المجهولة التي يملكها الحانوتي «عيد أبو القاسم» يحل الراوي ضيفاً مكرماً، ليلتقي معظم شخصياتها المتنافرة بين أبناء الحضيض الفقراء وأبناء الحضيض المتخمين بالثروات الطائلة.

وإذا كان الراوي، ومعه خفير المقبرة، قد أحسّا بالألم والرهبة، في مفتتح الرواية، لرؤيتهم الحفّارات والمدكّات وهي تنبش قبور الموتى الغابرين وتهرس عظامهم، لتوسعة الطريق المؤدي إلى المطار، فإنّ ذلك لم يكن إلا طرفاً بسيطاً وظاهراً من ملامح الصورة القائمة وراء الأسوار، والتي تنتهي إلى صعق القارئ بشحنة عالية من الألم والرعب معاً.

شخصيات هذا العالم التي ترتدي أقنعة الورع والصلاح والقناعة، هي كلها ديدان حقيرة عديمة الثقافة والإيمان، لكنّها شخصيات كبيرة ومؤثرة، طالعة من عالمها السفلي، بثروات هائلة تتحكّم بعالم السطح وأهله. فهي إذ تكسب ثرواتها من تخزين أصناف المخدّرات في جبّانات المقابر، تنجح في دفن أبناء السطح المدخرين لمستقبل الوطن، وذلك بتسخيرهم لخدمة صناعتها ذات العائدات المجزية، أو سحقهم تحت مطرقة الإدمان.

واحد من هؤلاء، وهو لم يكن حتى وقت قريب سوى منادٍ في موقف للسيارات، يدعو الراوي إلى الغداء في مطعم راق، وعند دفع الحساب يضع في يد النادل خمسمئة جنيه.. وعندما يستكثر صاحبنا هذا المبلغ ويشهق متسائلاً: أتكلّفت هذه الغدوة خمسمئة جنيه؟! يجيبه صاحب الدعوة بضحكة مجلجلة: هذا بقشيش... الثمن سيأخذه من البنك حالاً برقم الفيزا كارد!

وعلى الرغم من أنه لم يدفع ملّيماً واحداً، فإنّ الراوي يشعر فجأة بالاكتئاب والمرارة. أما مضيّفه المتلفّع بمسوح التُّقى، فيُسر له بأنّ الخير الذي بين يديه إنما جاءه من الشطارة و«بركة دعاء الوالدين»، هذا مع أنّ كلّ ما في يديه هو عقارات وبساتين مسلوبة، وعمولات ضخمة نظير تخزينه المخدّرات!

وفي هذا العالم المرعب نرى كيف أنّ أبناء الحضيض الماشين على حافة جبل الثراء، قد جاسو خلال المقابر، فحوّلوا أحواشها إلى غُرَز للتحشيش، أو مقاهٍ، أو ورشٍ للسمكرة، أو أكشاك لبيع السجاير والمعسّل، في حين تخصّص بعضهم في بيع جثث الموتى لمتعهدي كليات الطب أو للطلبة بمبالغ كبيرة، وبعضهم أنشأ مخازن سرية مليئة بالعظام الآدمية التي جمعت من وراء البلدوزرات عند شق طريق المطار، وذلك من أجل بيعها مثل قطع الغيار!.

لكن المفاجأة الضخمة والموجعة تتبدّى لنا في تخصص طائفة من هؤلاء بتصنيع المخدرات المزيفة، وأيّ تزييف، وذلك بطحن جماجم الموتى وخلطها بمسحوق حبوب المسكّنات المدرجة في جدول المخدرات والتي لا تباع إلّا بوصفة طبيّة، مثل الترامادول والكوداستين!

ما سلف ليس سوى وصف موجز لجوّ الرواية وأهم أبعاده، إذ ليس من المفترض لرواية ضخمة ومهمة مثل «نسف الأدمغة» أن تُستعرض، بل ينبغي لها أن تُقرأ، لتبدأ بعد استخلاص متعة القراءة، مهمّة استخلاص العبرة والشروع بالعمل الجاد من أجل إنقاذ مستقبل الوطن والناس.

تقول إحدى شخصيات الرواية: «المواطن هنا لم يعد إنساناً، بل أصبح مجرّد «كائن» كل هدفه في الحياة هو أن يبقى حياً... ومادمت تريد أن تعيش بكرامتك في مجتمع لم يعد يعترف بالكرامة... فلتكن جبّاراً عصيّاً بقوة الإجرام، أو فلتنفُذ بجلدك، أو فلتمت كمداً وقهراً»!

نأمل في أن تكون «نسف الأدمغة» دعوة مثمرة لاجتراح خيار رابع لحياة كريمة في مجتمع كريم، بديلاً عن تلك الخيارات القاتلة.

* شاعر عراقي... تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية

back to top