مقاربات الإصلاح: مركزية الدولة

نشر في 28-01-2008
آخر تحديث 28-01-2008 | 00:00
 د. عمرو حمزاوي عالجت في مقال الاثنين الماضي خريطة التحديات المعاصرة في عالمنا العربي طارحاً ما أسميته تساؤلات البدايات حول الجوهر الناظم لعلاقة الدولة والمجتمع والمواطن. واليوم أتابع بمناقشة قضايا الإصلاح الديموقراطي ودورها في صياغة مقاربات ناجعة للتعامل مع خريطة التحديات هذه، وواقع الأمر أن ثمة ثلاثة اتجاهات تسيطر على النقاش العربي حول الإصلاح جميعها ذات طابع أيديولوجي مضلل وغير مجدٍ على الإطلاق:

فهناك ولا شك الحديث الاستبعادي الزائف المفاضل بين دور العوامل الداخلية والخارجية في الدفع باتجاه الإصلاحات السياسية، وكأن الأمر يتعلق إما بانصياع الحكام العرب للضغوط الأميركية أو بتطورات ذاتية في المجتمعات العربية عديمة الصلة بالبيئة العالمية. وإذا كان في الإمكان تفهم أهمية المقارنة بين الداخل والخارج في واشنطن حيث تسعى إدارة الرئيس بوش إلى إضفاء شرعية متأخرة على حربها في العراق ومغامراتها شرق الأوسطية من خلال خطاب دعم الإصلاح الديموقراطي، فإن النقاش العربي إنما يعيد إنتاج مفردات بالية من شاكلة الإذعان والتسليم في مقابل الصمود والتصدي، ويلهي الأنظار عن إدراك مغزى اللحظة الراهنة وما فيها من تداخل في العناصر المحلية والإقليمية والدولية.

نجد في الكتابات العربية من جهة ثانية ما يمكن تسميته «اقتراب النوايا» المدعي القدرة على معرفة الدوافع الحقيقية للأطراف السياسية الرئيسة، وبالتالي قياس مدى مصداقيتها وتوقع توجهاتها المستقبلية. الصياغتان الأكثر شيوعاً في هذا السياق هما ولا شك التساؤل حول ما إذا كانت نخب الحكم العربية التي أدخلت بعض الإصلاحات في الفترة الماضية جادة بشأن التغيير أم أنها فقط تنحني للعاصفة حتى تمر، ثم التنقيب وراء المعلن من مواقف التيارات الإسلامية المعتدلة الملتزمة بالديموقراطية بحثاً عن نوايا خبيثة قد تجعلهم ينفردون بالحكم إن وصلوا إليه عن طريق صناديق الاقتراع.

تؤدي هيمنة النظرة المتشككة في «حكام الإصلاحات الشكلية» وذيوع الخوف من إسلاميي مقولة «مواطن واحد صوت واحد مرة واحدة» إلى تجاهل الدينامية التي يرتبها مجرد الحراك السياسي في مجتمعات ظلت جامدة لفترة زمنية طويلة واستحالة السيطرة على مساراتها. ويظل الحوار حول مستقبل العالم العربي بذلك حبيس خانة الرؤية الكلية بمنطق إما النية الخالصة للتغيير وبالتبعية الخير المطلق أو الغياب الكامل لكليهما معاً.

وتواجهنا على صعيد ثالث الاستخدامات المضللة لمفهوم التدرجية، خصوصاً من جانب النخب الحاكمة ومثقفي السلطة، وهي باختصار تغيب عن إدراك مواطنينا حقيقة أن كون الإصلاح والتغيير عمليات مجتمعية طويلة المدى لا تتحقق بين عشية وضحاها، لا يعني تبرير غياب الرؤية الواضحة لكيفية إحداث نقلات نوعية متتابعة تسهم في صياغة واقع سياسي جديد. يصبح هنا الدفع الرائج بأن المجتمعات الغربية أخذت من الزمن ما يزيد على ثلاثة قرون للانتقال من الحكم المطلق إلى بدايات الديموقراطية الليبرالية والتلميح من بين السطور إلى أن على عرب الحاضر الاقتداء بصبر الأوروبيين في الماضي السحيق وعدم تعجل الأمور بمنزلة تعامل شديد الانتقائية مع خبرات تاريخية سابقة اختلفت سياقاتها جذرياً عن اللحظة العربية الراهنة على نحو يجعل من المقارنة درباً من دروب العبث الفكري.

ما الذي يتبقى لنا إذن من مداخل واقترابات لفهم إمكانات الإصلاح الديموقراطي بين الخليج والمحيط، إذا ما استثنينا الغث من نقاشات حول الداخل في مواجهة الخارج ومكنونات النوايا ومقارنات التاريخ الزائفة؟ وقناعتي أن أحد أهم المقاربات البديلة إنما يتمحور حول ما يمكن تسميته إعادة اكتشاف الدولة القومية «أو القطرية بلغة التيارات العروبية».

يجد الناظر في مجمل القوى السياسية الفاعلة اليوم في أرض العرب على تنوع خطاباتها بين ديني وليبرالي ويساري وتعدد برامجها واستراتيجياتها أنها تستند بالأساس إلى القصر البراغماتي لدورها على حدود المجال العام في الدولة القومية المعنية. فقد ولت زمانية الأيديولوجيات الجمعية التي تخطت باسم الدين أو العنصر إطار الدولة القومية ورفضت الاعتراف بشرعيتها لتحل محلها رمزية «الوطن أولاً» بما تعنيه بالأساس من خلاف وحوار وإمكان توافق حول وضعية حاضره وكيفية إصلاحه. والواقع أنه لا يمكن فهم التطورات الراهنة من دون أن نمعن النظر في أهمية استعادة الدولة القومية لهيبتها كإطار أوحد للصراع السياسي ولصياغة الرؤى حول مضامينه الكبرى ليس فقط في المجتمعات ذات التركيبة السكانية المتجانسة مثل مصر، بل أيضاً في سياق التعدديات العرقية والدينية كما هي الحال في العديد من بلدان المشرق والخليج والمغرب العربي.

يستحيل التحدي الذي يواجه الدولة الآن من معضلة تبرير شرعية الوجود إلى كيفية التعامل الأمثل مع شؤون المجتمع المعني في ظل وعي عام ما عاد يقبل القهر بدعوة مواجهة أعداء الأمة ولا تهميش هذه الطائفة أو تلك باعتبارها يد العدو الخفية في الداخل النقي أو باسم حداثة مزعومة تحتقر ولاءات القبيلة والعشيرة.

أمام الدولة القومية فرصة تاريخية لتثبيت شرعيتها من خلال الانتقال من النموذج الأحادي (unitary state) القامع للتنوع، بغض النظر عن مصادره، إلى الاعتراف به وإدارته سلمياً من خلال «ميكانزمات» تعددية للتمثيل السياسي وتوزيع عادل للموارد المجتمعية بمعناها الشامل. والأمر جد خطير، فقد تراكمت عهود الظلم بين ظهرانينا وتبلورت رغبة عارمة لدى المواطنين للمشاركة في الشأن العام ورفض الاستبعاد بجميع أشكاله، وإن لم تستجب الدولة بالدمج الديموقراطي إلى تطلعات الشعوب، فسينفجر من الصراعات العرقية والدينية وصراعات الموارد بين الأغنياء والفقراء ما يفوق قدرتنا على التخيل ويعيد شرعية الدولة القومية إلى موضع المساءلة والتهديد من جديد.

* كبير باحثين في مؤسسة كارنيغي للدراسات-واشنطن

back to top