حروب الإبداع

نشر في 30-08-2007
آخر تحديث 30-08-2007 | 00:00
 محمد سليمان

نحن، في العالم العربي، مسكونون بصور الدكتاتور وظلاله، كارهون للتعددية، ومغرمون بإقصاء المختلف أو قتله، برغم خطابنا وحديثنا الدائم عن الحرية والديموقراطية والتسامح وحقوق الإنسان.

هناك شعراء ينزرعون في وجدان وذاكرة أممهم ويواصلون من ثم الحياة والعطاء بعد رحيلهم. وفي المقابل، هناك شعراء آخرون يتوارون بعد رحيلهم أو تركهم لمواقع وظيفية مؤثرة. وأحمد شوقي الذي رحل عام 1932، ويحتفل المجلس الأعلى للثقافة ومكتبة الاسكندرية في أكتوبر ونوفمبر المقبلين بمرور 75 عاماً على رحيله، هو بالتأكيد أحد شعراء المجموعة التي بقيت راسخة في الوجدان.

فبرغم الهجوم الذي انصب عليه واعتباره شاعراً للنظام وانشغل بتقليد ومعارضة الشعراء القدامى واستعادة وإحياء طرائقهم وأساليبهم الشعرية، مهمشاً ذاته وتجربته ومجمل خبراته. وكان المازني والعقاد وعبد الرحمن شكري الذين أسسوا في بداية العشرينيات من القرن الماضي «جماعة الديوان» في طليعة المهاجمين والساخرين من شوقي وشعره، لكن هذا الهجوم برغم ضراوته لم ينل من مكانة الشاعر الذي واصل صعوده وتألقه وتوج في سنواته الأخيرة أميراً.

في سنوات الدراسة كان شوقي أكثر الشعراء حضوراً في المناهج الدراسية، وكانت مختاراته «الشوقيات للمدارس» متاحة للجميع، كما ساهمت قصائده التي غناها محمد عبد الوهاب في التعريف به وصنع شهرته وكذلك مسرحياته، وقد كان واحداً من الآباء الشعريين الذين استفدت منهم واتكأت عليهم في بداية رحلتي الشعرية إلى جانب المتنبي والمعري وأبي تمام وشعراء المهجر.

والاحتفاء بهذا الشاعر الكبير يدفعني إلى استعادة وتأمل الجولات الكبرى التي شهدها شعرنا وفتحت الأبواب للتحديث والتجريب، وبدأها شعراء المهجر في أوائل القرن الماضي. ولعلنا نتذكر اهتمام طه حسين بالشعر المهجري والدراسة المنشورة في كتابه «حديث الأربعاء» عن الشاعر فوزي المعلوف.

وتتابعت محاولات التجديد مع جماعتي «الديوان» و«أبوللو»، لكن التحول الأكبر والأهم كان بعد منتصف الأربعينيات وتمثل في ظهور قصيدة التفعيلة وحركة الشعر الحر، والشعراء الرواد، ثم قصيدة النثر.

وكان من المتوقع أن تتنافس القصائد الثلاث «العمودية والتفعيلة والنثر» وأن تقدم أفضل ما لديها لإثراء الحركة الشعرية وشحنها بالزخم والتوهج، لكننا في العالم العربي مسكونون بصور الدكتاتور وظلاله، كارهون للتعددية، ومغرمون بإقصاء المختلف أو قتله، رغم خطابنا وحديثنا الدائم عن الحرية والديموقراطية والتسامح وحقوق الإنسان.

هذه الدكتاتورية المزروعة في داخلنا دفعت كل تيار شعري إلى إعلان الحرب على التيارات الأخرى انطلاقا من أنه وحده يمثل الشعر الحقيقي. وكالعادة، اختلط الشعري بالسياسي، وتناثرت تُهم التخلف والرجعية ومحاكاة الآخر الغربي أو الذوبان فيه والعمالة له. تلك التُهم يقل تداولها في مجالات المسرح والرواية والقصة ربما لأن هذه الفنون مستحدثة لم يعرفها أجدادنا، كما أن التراكم الروائي والمسرحي والقصصي لم يصر بارزاً أو ملموساً إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، بينما ظل الشعر منذ بداياته وحتى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ديوان العرب وفنهم الأصيل والوحيد.

وبسبب حروبنا الإبداعية وكراهيتنا للتعدد، توارت القصيدة العمودية التي شكلت وعينا الشعري، وكتبها معظم شعراء جيلي في بداياتهم. وفي السنوات الأخيرة تراجعت أيضا قصيدة التفعيلة التي منحت الشعر العربي أهم رموزه وشعرائه الكبار في نصف القرن الأخير بعد أن اتجه معظم الشعراء الشبان إلى قصيدة النثر، متوهمين أنها الأسهل والأحدث وأدى هذا التوجه إلى انتشار البلبلة والفوضى واختلاط الشعر باللاشعر، خاصة أن قصيدة النثر لم تستطع ابتداع منظومة من القيم الفنية أو حتى بعض العلامات التي تدل عليها بحيث يكون بوسعها أن تضع حداً فاصلاً بينها وبين الثرثرة والسرديات والخواطر التي تنشر باعتبارها شعراً.

تُرى ما الذي سيحدث لو أن أحمد شوقي بُعث الآن حياً ورأى ما نراه؟ هل سيظل حليماً متفائلاً مثلي، ويعلن أن الشعر يحرس نفسه، وأن الحركات والتيارات الشعرية تضم دائماً الصالح والطالح والموهوب والمدعي، لكنها في النهاية تصفّى وتبلور نفسها في عدد من شعرائها الرموز؟ وهل سيسامحنا حين يعرف أن بلادنا منذ رحيله لم تنجز شيئاً إلا في مجالات الفن والابداع والكتابة أم سيصبح فظاً ويكفر الشعراء والقراء ويبحث عن المتشددين والمنادين بدولة الخلافة لكي ينضم إليهم؟!

* كاتب وشاعر مصري

back to top