التعليم...وثقافة الموت

نشر في 05-07-2007
آخر تحديث 05-07-2007 | 00:00
 محمد سليمان عن الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور أصدرت مجلة «نقد» اللبنانية عددها الأخير لكي تذكّر القراء بالشاعر وتنفض الغبار عن إبداعه. وإتماما للفائدة سألت المجلة بعض الشبان عن الشاعر الذي رحل عام 1981 لتسبر مدى معرفتهم به والصورة التي تشكلت له في مرايا الأجيال الجديدة. أحدهم قال «لم أقرأ له وأعتقد أنني لم أخسر شيئاً»!

والإجابة رغم حدتها والعداء الذي يهب منها متوقّعة، وهي في النهاية أفضل من سلوك بعض الشعراء والكتاب الذين يجاملون زملاءهم أو يتحاملون عليهم بسبب المصالح والعلاقات الشخصية، وهي أيضاً أفضل كثيراً من سلوك اللجنة العليا للجوائز المصرية التي يشكل الموظفون ومندوبو الوزارات غالبية أعضائها، وهم - رغم بعدهم عن الشعر والأدب - يمنحون ويمنعون أهم جوائز الدولة سنوياً. ولك أن تتخيل مندوبي وزارات الصحة والمواصلات والري والمالية والصناعة والأوقاف والاسكان وغيرهم، وهم يناقشون ويفاضلون بين الأدباء والشعراء والمفكرين لكي يختاروا المستحق للجائزة .

شاب آخر أجاب عن سؤال المجلة قائلاً: «اسم صلاح عبد الصبور يشير إلي مصريته... وأظنه كان أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة» والمتابع للحوارات والاستطلاعات التي تجريها الإذاعات والصحف المصرية مع المواطنين في الشوارع سيتلوى من الضحك ويستلقي على الظهر، ربما هماً وغماً من إجابات المواطنين، خاصة أن المتعلمين يشكلون نسبة كبيرة منهم، كما سيدرك أيضا أن المدارس والجامعات والمعاهد لم تعد تعلم، وأنها فقط تقذف سنوياً مئات الآلاف من حاملي الشهادات إلى الشوارع كي ينضموا إلى صفوف العاطلين، أو يحلموا بالسفر وبعبور البحر الأحمر أو الأبيض فوق عبارات متهالكة أو زوارق لم تعد صالحة سوى للغرق، وفي كل الأحوال ينقلب عدد كبير من هؤلاء الشبان على بلادهم ومجتمعهم وينحازون إلى المتشددين والمتطرفين.

التعليم سيظل السبب الأول والثاني والعاشر لكل مشاكلنا .التعليم الذي حَجب وأزاح ثقافة العصر وإبداعه وانشغل بالتلقين والتشبث بالقديم ومحاربة ملكات التفكير والابداع، سيظل يُعيد شعوبنا للحياة في الماضي ويحشو مجتمعاتنا بالاغتراب والجمود والخوف من الآخر والعجز عن اللحاق بالعصر والانخراط في حركته.

انحسار دور المدرسة والجامعة أدى إلى «ضمور» الثقافة الجادة التي ترسخ الانتماء وتضع الإنسان في عصره وواقعه وتفتح الأبواب للمستقبل وتُعلي قيم الطموح والكد والتسامح، وأدى في الوقت نفسه إلى شيوع الثقافة البديلة «ثقافة الموت» التي تقود الآن مجتمعاتنا وتوقظ التعصب والطائفية وثقافة القتل والتفجير وإبادة المختلف والانعزال والتشظي، وهي أيضا الثقافة التي يروج لها بعض شيوخ الفضائيات الذين نسوا أن الدين يحض على العلم والعمل، فزّينوا الجمود والكسل للناس. أحدهم عندما سئل عن تخلفنا وتقدم الغربيين أفتى بأن «الله قد سخرهم لخدمتنا... فهم يجتهدون ويخترعون... ونحن نستفيد»!

ويكفي أن نقارن هذه الفتوى وفتوى إرضاع الكبير لأحد شيوخ الأزهر وفتوى التبرك ببول الرسول لمفتي الجمهورية بفتاوى الشيخ محمد عبده الذي مات عام 1907، أي قبل قرن كامل، لنرى حجم الخراب والتصحر الذي تعانيه ثقافتنا.

إصلاح التعليم أصبح واجباً قومياً كيلا نتحول إلى أشباح أو ظلال تخطو على حوائط وأرض لا وجود لهما. العالم المتقدم يعيش الآن في عصر الحداثة وما بعدها، بينما نتخبط ونحيا في عصر ما قبل الحداثة ونحلم بالعصور الأقدم؛ عصور الخلافة العباسية والأموية وفجر الإسلام. والمناهج الدراسية تدعم وترسخ هذا التوجه عندما تفسح المجال للأدب والشعر القديمين وتغيب إبداع عصرنا أو تقدم، في أفضل الأحوال، أردأ نماذجه لكي تنفّر القارئ منه وتصرفه عن متابعته.

وخير مثال على ذلك، للدكتور شوقي ضيف، الذي أعد ونشر موسوعة كاملة عن الشعر والأدب في العصور المختلفة وفاز بأهم الجوائز المصرية والعربية، كتابه عن الأدب المصري المعاصر نشرته «دار المعارف» عام 1954، ليصبح أحد المراجع الأساسية للمناهج الدراسية في المدارس والجامعات المصرية. وعلى مدى خمسين سنة ظلت «دار المعارف» تعيد طبع الكتاب كل ثلاثة أعوام دون أن ينتبه أو يأبه الدكتور ضيف بالمستجدات الإبداعية بأن يضيف إلى كتابه فصولاً جديدة عن نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس وغيرهم من كتاب القصة والرواية وفصولا أخرى عن الشعر الحديث والشعراء الرواد والتيارات الشعرية والأدبية والثقافية الأخرى. وظل الكتاب، الذي لم يضف إليه د. ضيف صفحة واحدة، يقدم على مدى نصف قرن صورة زائفة للإبداع المعاصر في مصر ويساهم مع كتب شبيهة أخرى في ترسيخ وإشاعة ثقافة «الإقصاء والموت»، وأصبح من المألوف أن يقول شاب قاهري لمذيعة سألته عن عباس العقاد إنه «أحد أهم شوارع مدينة نصر»... وأن يظن شاب لبناني أن الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور كان «أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة».

 

كاتب وشاعر مصري

back to top