أشرف مروان... عاش غامضاً ومات لغزاً 2 من 2
«بابل» هو الاسم الحركي الذي منحه الإسرائيليون لأشرف مروان. لعلّ أول ما يستدعيه الاسم في الذهن هو مدينة بابل العراقية التي يميل أغلبية رجال الدين اليهود لنسبة اسمها الى برج بابل الشهير الذي دمّرته الملائكة بعد ان بناه احفاد آدم وعاقب الرب البشر بان تبلبلت ألسنتهم وتعددت لغاتهم بعد ان كانوا يتكلمون لغة واحدة وهي لغة آدم ابي البشر. ولا نعرف هل كان الموساد متحيراً في امر أشرف مروان الى حد ان يختار له هذا الاسم بدلالاته المبهمة، التي تشير الى الحيرة في امره اكثر من الثقة فيه.لقد كان مروان طعما ثمينا ودسما سال له لعاب المسؤولين الإسرائيليين. شاب مصري رفيع المستوى وقريب من القيادة المصرية عبر المصاهرة وعلاقات العمل، وهو ابن للواء مرموق في الجيش المصري، يتطوع للعمل في الموساد ويمد اسرائيل بمعلومات قيمة لا يمكن رفضها. ومع ذلك ظل امر مروان محيرا بين رئيس الموساد آنذاك «تسفي زامير» المقتنع بنجاحه في تجنيد مسؤول مصري رفيع وبين رئيس الاستخبارات الحربية «ايلي زعيرا» الذي عبَّر اكثر من مرة عن تشككه في اشرف مروان الذي قد يكون عميلا مزدوجا يضلل اسرائيل بمعلومات ملفقة تأتي من مكاتب المخابرات المصرية مباشرة.
وتأتي الوفاة الغامضة الأسبوع الماضي لتفتح باب الجدل على مصراعيه من جديد في مصر واسرائيل، فقد سقط مروان، زوج ابنة الرئيس جمال عبد الناصر ورئيس هيئة التصنيع الحربي الاسبق، من شرفة شقته في لندن فيما يبدو انها عملية قتل او على الاقل وفاة في ظروف شبهة جنائية، وهو امر متوقع بالطبع لمثل اشرف مروان الذي تطارده عشرات الجهات.رحل الدكتور مروان تاركا اللغز دون حل قاطع، فهل هو بطل مصري اخترق المخابرات الاسرائيلية وضللها بنجاح ام انه عميل عرض خدماته على اسرائيل عام 1969 وامدها بمعلومات قالت عنها المخابرات الاسرائيلية انها لا تقدر بثمن؟المعلومات وردت للمرة الاولى في كتاب «الاسطورة مقابل الحقيقة حرب يوم كيبور (الغفران) الاخفاقات والدروس» الذي صدر عام 2004 لايلي زعيرا رئيس الاستخبارات الحربية الاسرائيلية الاسبق الذي قال ان «السادات صحب مروان معه في زيارة بالغة السرية والاهمية لمقابلة الملك فيصل بن عبد العزيز، ولم يكن يعلم بموضوع الحرب في مصر سوى السادات ومروان، وربما تعمد السادات اصطحاب مروان لاجل تسريب معلومة بداية الحرب ضد إسرائيل».اهارون برجمان، المؤرخ والضابط السابق في الجيش الاسرائيلي، أصدر كتابا بعنوان «تاريخ اسرائيل»، وفيه فصل خاص عن حرب 1973 ومعلومات لم يسبق نشرها وتتناول عمليات استخباراتية معقدة جرت بين عامي 1967 - 1973، ومنها انه، في عام 1969، حين كان مروان شابا في الرابعة والعشرين من عمره، اتصل بالسفارة الاسرائيلية في لندن وعرض العمل لحساب الموساد ولم يتحمس ضابط الموساد للشاب لان طريقة عرضه تبدو مريبة وغير مقنعة، وترك مروان بياناته في السفارة وانصرف ولكن عندما علم مسؤولو الموساد انه ابن ضابط كبير في الجيش المصري وانه على صلة قرابة بالرئيس عبد الناصر ابدوا اهتماما كبيرا به وبدؤوا التعاون معه، ثم اعتبر اهم عملاء اسرائيل في مصر وكان يقبض بعد كل مقابلة مع ضابط الموساد مئة الف جنيه استرليني. وقد ساور القلق مسؤولي الموساد من ان يفقد زوج الابنة نفوذه الرسمي عقب موت عبد الناصر في سبتمبر من عام 1970، لكن الرئيس انور السادات اسند له عدة مناصب مهمة، فعينه وزيرا في رئاسة الجمهورية، وسكرتيرا إعلاميا لرئاسة الجمهورية، ثم اصبح من اقرب معاوني الرئيس السادات.ومن المعلومات التي اوصلها الى اسرائيل نص حوار دار في موسكو عام 1970 بين عبد الناصر والقيادة السوفييتية كرر فيه الرئيس المصري طلب شراء مقاتلات متطورة قادرة على الوصول الى قلب اسرائيل، ومعلومات عن رسالة سرية من السادات للزعيم السوفييتي ليونيد بريجينيف يطلب فيها شراء صواريخ «سكود».وهي معلومات كان هدفها إقناع اسرائيل بأن مصر لن تشن حربا عليها الا اذا حصلت على طائرات حربية مقاتلة قادرة على الوصول الى اسرائيل وصواريخ «سكود»، وهو ما ثبت عدم صحته، الامر الذي دعم عنصر المفاجأة في حرب اكتوبر.ويبدو ان مروان قدم معلومات مضللة للاسرائيليين مثل هجوم مصري متوقع عام 1972، وآخر في ابريل عام 1973. وفي مساء الجمعة الخامس من اكتوبر من عام 1973 التقى مروان برئيس الموساد تسفي زامير في لندن وأبلغه بأن الحرب ستبدأ اليوم التالي في الساعة السادسة مساء، وكان في ذلك خدعة اخرى لان الحرب اندلعت في الساعة الثانية من بعد الظهر قبل ان يتمكن الجيش الاسرائيلي من اتمام تعبئة قواته.فالخلاف بين زامير وزعيرا لم يحسم رغم مرور 34 عاما، وظلت المحاكم الاسرائيلية تنظر فيه حتى الاسبوع الماضي. وكانت بداية خروج المعركة للعلن من خلال التلفزيون الاسرائيلي في برنامج يقدمه للصحافي دان مرجليت، واعلن فيه رئيس الموساد الاسبق تسفي زامير ان رئيس المخابرات الحربية ايلي زعيرا هو الذي سرب اسم اشرف مروان لوسائل الاعلام، وبذلك كسر اول قواعد العمل الاستخباري، لذلك يجب تقديم زعيرا للمحاكمة. وأوضح زامير ان الموساد يعقد جلسات سرية مع مسؤولين كبار في الدول العربية ويشتري معلومات، وتسريب اسم اشرف مروان سيحرم اسرائيل من هذه الميزة، لان اي مصدر سيخاف ان يدلي احد الاسرائيليين باسمه، ولذلك فإن زعيرا لم يضر اشرف مروان فقط، لكنه دمر مستقبل التعاون الإسرائيلي مع مسؤولين عرب.وفي المقابل، فإن زعيرا تمسك بموقفه، موضحا ان عملية «بابل» من ابرز ما نفذته المخابرات المصرية قبل واثناء حرب اكتوبر، حيث استطاعت زرعه في طريق ضباط التجنيد الاسرائيليين واكسابه ثقتهم، ثم تضليلهم بطريقة محكمة.واذا تركنا الخلاف اللانهائي بين زامير وزعيرا، الذي ربما راح ضحيته اشرف مروان، جانبا، نجد ان ما ينشر في الصحافة الاسرائيلية يكشف بعض الغموض حول حقيقة الدور الذي لعبه مروان. ويقول عاميت كوهين في صحيفة «معاريف» في 19يناير عام 2003، متحدثا عن حادث الطائرة الليبية، ان مروان هو الذي ابلغ ضابط تشغيله في الموساد بتفاصيل العملية ليكسب ثقته، وبذلك ضرب السادات عصفورين بحجر واحد، ظهر وكأنه ساعد القذافي، ومن ناحية اخرى دعم مصداقية احد اضلاع خطة التمويه والخداع.ويضاف الى ذلك ان زعيرا قال في لقائه التلفزيوني «من الثابت ان اشرف مروان رافق السادات في زيارته للملك فيصل بالسعودية في اغسطس 1973 والتي اخبر السادات الملك فيصل فيها بنيته شن الحرب قريبا جدا، فلماذا صمت مروان كل هذا الوقت نحو شهرين، ولماذا لم يبلغ اسرائيل بالخبر الا قبل اندلاع الحرب بساعات؟ حيث لا تصبح المعلومة ذات قيمة، ولماذا ضيع يوما كاملا وطلب لقاء رئيس الموساد في لندن ولم يبلغهم بالخبر بالتلفون، او في نفس البرقية التي طلب فيها تحديد الموعد اذا كان فعلا يعمل لمصلحة اسرائيل».ويتضح من ذلك ان المخابرات المصرية درست الفترة الزمنية التي تحتاجها اسرائيل لاجراء التعبئة العامة، وبالتالي كان الابلاغ عن موعد الحرب قبل اندلاعها بساعات غير مجد بالنسبة لاسرائيل، وهذا ما ادركه بعض المحللين الاسرائيليين الذين اعتبروا ان بقاء مروان طليقا يمارس حياته الطبيعية دون اي عائق يؤكد ان اسرائيل راحت ضحية لعبة رجل محترف من طراز غريب.وهذا ما أكده مجدداً المؤرخ اهارون برجمان من لندن، والذي رد في «معاريف» مؤكدا ان اشرف مروان كان عميلا مزدوجا، ولاؤه للمخابرات المصرية، وكان جزءاً لا يتجزأ من خطة التمويه والخداع قبيل حرب اكتوبر، وقد أدى دوره بنجاح مطلق في خداع الاسرائيليين وتعميتهم بمعلومات مضللة قبل الحرب.والدكتور اهارون برجمان هو اسرائيلي يقيم في لندن، وكان اول من فجّر قضية اشرف مروان عندما نشر كتابا بعنوان «تاريخ اسرائيل».الطريف ان اسرائيل لا تصدق نفسها حتى الآن، وتنتظر تأكيداً مصرياً يبدد ظنونها، فقد كتبت سيمدار بيري، مراسلة الشؤون العربية في صحيفة «يديعوت احرونوت»، هذا الاسبوع، ان اسرائيل تقف بكل اجهزتها الاستخبارية والاعلامية على اطراف اصابعها حتى موعد الجنازة.وقالت مصادر اسرائيلية رفيعة المستوى لـ «يديعوت احرونوت»، بقينا ننتظر هذه اللحظة طويلا، لان شكل الجنازة ومكانها سيحسمان الجدال اذا كان مروان عميلا للموساد فقط، ام انه كان عميلا مزدوجا وعمل في خدمة المخابرات المصرية.وقد كانت الجنازة بالفعل رسالة سياسية، كما أكدت تصريحات الرئيس المصري حسني مبارك، حيث قال فور عودته من العاصمة الغانية أكرا إنه كان على علم بدور مروان الاستخباراتي، مشيرا الى أنه قدَّم لوطنه خدمات جليلة.