صناعة الفراغ في بكركي بعد بعبدا
لقد بدت بكركي حتى بضعة أيام خلت حصن الموارنة الأخير الذي يمكنهم أن يفاوضوا منه على دور فاعل في البلد، ولو أنهم لا يملكون العلاقات الخارجية التي تؤهلهم لأداء دور إقليمي، فبكركي هي الثابت الماروني الأصيل الذي لا يرقى إليه شك في تاريخ المورانة في لبنان.لم يترك السياسيون للبنانيين فرصة لالتقاط الأنفاس، فالوقت ضيّق وينبغي أن تدار المعارك بالسرعة القياسية، وأن تخاض المباريات وفق منطق الضربة القاضية، وهكذا لم ينتظر الجنرال ميشال عون استفتاءً شعبياً ليقرر أنه بطريرك الموارنة السياسي، ويجعل من دارته في الرابية محجّةً لكل من يؤيدونه الرأي، وهذا يفترض بخصومه من السياسيين الموارنة الإعلان عن مقر آخر يعتبرونه محجّتهم في السياسة، لكنهم في الحالات جميعاً، سيجعلون من مقر البطريركية في بكركي مكاناً مهجوراً كما هي حال قصر بعبدا.التجاذب الماروني– الماروني قد يبلغ هذا الأسبوع مدى غير مسبوق، وهو يُذكّر بالمحنة التي ألمت بالبلد في نهاية الثمانينيات، يوم اقتتل المسيحيون في ما بينهم وانقسموا إلى جبهتين: واحدة بقيادة الجنرال ميشال عون، وأخرى قادها الدكتور سمير جعجع، وهما بطلا المعركة الحالية من دون منازع. هذا التذكير بتلك الفترة من الاقتتال العنيف بين الإخوة في الطائفة الواحدة، الذي أصابت شظاياه بكركي يومها، لا يأتي بمحض المصادفة، ولا تكراراً مملاً لتاريخ دامٍ، بل لأن الموارنة عموماً يشعرون بأن تلك الحرب لم تسفر عن رابح وخاسر بل عن خاسرين بالجملة، وأنهم اليوم يريدون إجادة اللعب في نسختها الجديدة على نحو يجعل الرابح رابحاً والخاسر خاسراً. لا شك أن سيد بكركي سيكون أول الخاسرين في هذه المعركة المتجددة، فالجنرال ميشال عون بدأ توجيه نيرانه إليه، بل لم يلبث حليفه سليمان فرنجية أن لمّح إلى ضرورة اقتصار دور سيد بكركي على الشؤون الروحية وترك الشؤون السياسية للبطريرك السياسي ميشال عون، والأرجح أن المعركة مع بكركي التي يخوضها الجنرال عون، وهو يرتب بيته الداخلي قبل إطلاق شارة بدء المعركة المقبلة، لن تكون معركة سهلة على الإطلاق، ولن تكون نتائجها في مصلحة المنتصر أصلاً، فحين يتم الاعتداء على موقع الموارنة الأول والتطاول عليه على النحو الذي يجري اليوم، فإن نتيجة المعركة ستكون بقاء المنتصر عارياً من دون سند محلي أو دولي.معضلة الموارنة عموماً في لبنان أنهم ما عادوا يتمتعون برعايات إقليمية ودولية، بينما تملك القوى الطائفية الأخرى في الطرف الثاني الدعم الخارجي الكافي لجعل أدوارها ومواردها لا تشح بمثل ما شحّت موارد الموارنة في العقود الأخيرة، فالسُّنّة يملكون كما لا يخفى علاقات ممتازة مع المملكة العربية السعودية، فضلاً عن العلاقات الدولية؛ من أوروبا إلى أميركا مروراً بتركيا وباكستان، والشيعة في لبنان اليوم جزء لا يتجزّأ من المحور الإيراني–السوري، والذي يملك من القوى والموارد ما يؤهله إلى المشاغبة طويلاً على الهيمنة الأميركية في المنطقة. وحدهم الموارنة بين الطوائف الكبرى الثلاث لا يملكون إلا البعد الداخلي اللبناني الذي يتيح لهم البقاء قيد التأثير، ويخطئ من يظن أن تدمير موقع بكركي أو التطاول عليه في هذه اللحظة قد ينشئ للموارنة دوراً محلياً يمكن الاعتماد عليه.لقد بدت بكركي حتى بضعة أيام خلت حصن الموارنة الأخير الذي يمكنهم أن يفاوضوا منه على دور فاعل في البلد، ولو أنهم لا يملكون العلاقات الخارجية التي تؤهلهم لأداء دور إقليمي، فبكركي هي الثابت الماروني الأصيل الذي لا يرقى إليه شك في تاريخ المورانة في لبنان، وبالتالي لاتزال هي التي تملك مقاليد الهوية اللبنانية، التي تصطبغ بصبغتها حتى اليوم، والتي لم يستطع جمهور 14 آذار العريض والمتعدد الطوائف أن يتظاهر في ساحات مدينة بيروت من دون الاتّكاء على رموز تلك الهوية. لهذا بدا دور بكركي والموارنة من ورائها فاعلاً في سنوات الهيمنة السورية على لبنان، لكنه كان دوراً محلياً يعاند كل العالم الذي أجاز تلك الهيمنة، وحين حاول سيد بكركي في بداية القرن الحالي أن يدفع الموارنة إلى تأدية دور يتجاوز الحدود اللبنانية الضيّقة، جال على المهاجر في أوروبا والأميركتين وشنّ حملة لا قرار لها على استتباع سورية للبنان، لكن جولته فقدت زخمها على باب البيت الأبيض الذي رفض رئيسه استقباله.لكن ذلك لم يجعل الدور الماروني أقلّ فاعلية في لبنان، ذلك أن حركة بكركي السياسية في تلك الفترة من الزمن وضعت نصب أهدافها الأولى إعادة تعريف الهوية اللبنانية ليستحق البلد استقلاله وحكم نفسه بنفسه.اليوم يغامر الجنرال ميشال عون بتدمير الإنجاز الماروني الوحيد في العقدين الماضيين، لكنه وهو يغامر بذلك كله لا يملك من الموارد ما يمكن أن يبقيه قيد التأثير السياسي في لبنان. لكنه قطعاً سيبقى، بسبب الالتفاف الشعبي حوله، قادراً على الابتزاز، وبين الابتزاز والتأثير ثمة بون شاسع يبدو أن زعماء الموارنة السياسيين لا يقيسون مسافته القاتلة. * كاتب لبناني