حين يغرّر بنا الإعلام

نشر في 07-07-2007 | 00:00
آخر تحديث 07-07-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

ماذا فعل الجمهور؟ لقد اكتفى بما يعرض له من «حقائق» عبر وسائل الإعلام تلك، وبنى سياسته وفق الرؤية التي أفضت إليها المعلومات، فاتخذ القرار الخطأ، الذي سيظل يدفع ثمنه من حاضره ومستقبله.

أنت اليوم ناخب، مطلوب منك أن تدلي بصوتك لاختيار مرشح لمنصب قيادي رفيع. العملية الانتخابية مضمونة النزاهة، فليس ثمة تزوير، أو تلاعب بكشوف الناخبين، أو منع لأنصار أي مرشح، أو تيار سياسي، من الإدلاء بأصواتهم. هناك قدر عال من الحرية يحكم المشهد الإعلامي، فالمعلومات والأخبار تتدفق من دون رقابة أو تعتيم، وليس عليك سوى أن تشاهد وتسمع وتقرأ، ثم تحزم رأيك، وتذهب إلى صندوق الاقتراع. تأكد أن رأيك، الذي سيُترجم في علامة على بطاقة الاقتراع سيُحترم، وأن المرشح الذي سيحظى بأغلبية الأصوات سيتبوأ المنصب الذي تجري المنافسة عليه.

المرشحون للمنصب الرفيع ثلاثة؛ ووسائل الإعلام التي تعرضت لها لم تتوانَ في عرض الأخبار والقصص والتحقيقات واللمحات الشخصية عنهم، حتى يسهل عليك بناء السياسة المناسبة إزاءهم، والتي تتفق مع مصالحك ومصالح مجتمعك. أليس هذا أحد أهم الأدوار المفترضة للإعلام؟

حسناً، المرشح الأول، وفق «الحقائق» التي أذيعت ونشرت عنه، والتي هي مضمونة الدقة ومبرهن عليها ومستدل إليها: بدين، قصير، أصلع، مدخن، يشرب الخمر، يلعب القمار، دائم الاستدانة، تأكد أنه سبق أن استغل نفوذه لتحقيق منافع شخصية، كما ثبت أنه لم يكن مخلصاً لامرأة واحدة أبداً. أما المرشح الثاني؛ فقد عُرف عنه، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه سبق أن استغل نفوذه السياسي لتحقيق منافع مالية. كما ثبت أنه استغل احتلاله منصباً رفيعاً وأقام علاقات «جنسية» مع سيدات يعملن تحت رئاسته، فضلاً عن أنه كذب على شعبه سابقاً، في تحقيق رسمي أجري معه على خلفية «سقطاته» السياسية/الأخلاقية، وأقر بذنبه طالباً الصفح.

المرشح الثالث عُرف طويلاً مثالاً للشجاعة والالتزام الوطني، وفي انتخابات سابقة احتل المنصب الأول بتأييد شعبي منقطع النظير عّز على أي سياسي تحقيقه سابقاً أو لاحقاً. وهو خاض معارك بلاده بشجاعة وشرف، وحصل على أعلى الأوسمة، ونذر نفسه لرفع شأن وطنه عالياً بين الأمم. لم يعرف أبداً عنه أنه استغل مناصبه السياسية الرفيعة التي احتلها سابقاً لتحقيق منافع شخصية، كما لم يعرف عنه أبداً أنه أقام علاقات عاطفية موازية، لقد اكتفى دوماً بامرأة واحدة.

من ستختار من هؤلاء المرشحين الثلاثة؟ البدين السكير المقامر، أم المهووس بالجنس والمال، أم ذاك القابض على المثل بشجاعته وقناعته الواضحتين؟ يبدو الخيار سهلاً هنا، فأنت، ومعك الجمهور، ستذهبون فوراً إلى المرشح الثالث. فمن يا ترى هؤلاء المرشحون؟

الأول هو ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق؛ السياسي الأسطوري الذي حافظ على المملكة المتحدة، وجنبها احتلالاً وذلاً تاريخياً على أيدي النازي في الحرب العالمية الثانية (1939-1945). هو داهية سياسية من الطراز الأول، ورغم أنه لم يمنح بلاده مجداً إمبراطورياً دأبت على حصده على مدى قرون، فإنه جنبها ويلات هزيمة كانت وشيكة الوقوع. تشرشل هو من أدخل الولايات المتحدة الحرب إلى جانب بريطانيا، وصلّب جبهة الحلفاء، فمنح النصر لبلاده، وأزال سيف النازي من على رقبتها، وحافظ لها على مكانة لائقة بين الأمم رغم تضاؤل كتلتها الحيوية بفعل محدودية الموارد وتغير العالم وبزوغ عهد القوى العظمى الجديدة.

المرشح الثاني هو بيل كلينتون، الرئيس الذي كرس تفرد الولايات المتحدة بقمة الكون، والذي نجح في الوصول إلى المنصب الأخطر في عالمنا مرتين، بعدما حقق تقدماً اقتصادياً مطرداً وقياسياً لبلاده. نجح كلينتون أيضاً في تحقيق المصالح الأميركية عبر سياسة خارجية شديدة البراغماتية، لكنها مغلفة بممارسة لينة حققت المصالح من دون أن تجلب الكره والأضرار؛ كونه خير من يضرب به المثل في استخدام «القوى الناعمة» Soft Power.

أما المرشح الثالث، فهو أدولف هتلر الزعيم الألماني النازي، الذي أورث بلاده أكثر الهزائم مرارة في التاريخ، ليحولها من إحدى القوى الأعظم في القارة الأوروبية والعالم إلى دولة تحت الاحتلال... مقسمة... ومسلوبة الإرادة؛ احتاجت عقوداً لتسترد وعيها، ووحدتها، وقوتها، ومن ثم تستعيد إرادتها.

ماذا فعل الإعلام بنا هنا؟ لقد غرر بنا بما اصطلح الباحثون الإعلاميون على تسميته Image Frame أو «بناء الصورة»، مستخدماً تكنيكاً خطيراً هو Using True Facts to Draw False Conclusions أي «استخدام حقائق للوصول إلى استنتاجات زائفة». لقد اختار الإعلام المنحاز غير الموضوعي، عن عمد أو جهل، أن يبني صوراً للمرشحين الثلاثة، مستخدماً معلومات مثبتة من سجلهم التاريخي. لكنه لم يعرض كل ما توافر من معلومات بصددهم بأمانة ونزاهة، بل تخير منها ما يتسق مع الصورة الزائفة التي يسعى إلى رسمها، ونزعها من سياقها، وحذف كل ما يتناقض معها، ثم عرضها على الجمهور في إطار شيق.

وماذا فعل الجمهور؟ لقد اكتفى بما يعرض له من «حقائق» عبر وسائل الإعلام تلك، وبنى سياسته وفق الرؤية التي أفضت إليها المعلومات، فاتخذ القرار الخطأ، الذي سيظل يدفع ثمنه من حاضره ومستقبله.

هكذا يغرر الإعلام المنحاز والموجه بجمهوره، وهكذا ننساق نحن إلى خيارات في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب. يجب أن نقف وندقق في الرسائل الإعلامية التي تصل إلينا، وأن نزيد من سعة تعرضنا لوسائل الإعلام، حتى يمكننا بناء سياسات أكثر رشداً فيما يتعلق بحياتنا العامة والخاصة. أما وسائل الإعلام التي تمارس مثل هذه الممارسات فعليها أن تعي أن الجمهور، في ظل سياق منفتح ومنافسة محتدمة، لا شك سيكتشف يوماً أن الاستسلام لوسيلة إعلامية تخدعه، عن جهل أو عمد، شديد الكلفة وموجع في آن، وهو، حتماً، سيلفظها وسيبحث عن وسيلة أخرى أكثر موضوعية وصدقية.

 

كاتب مصري

back to top