الظلم

نشر في 04-02-2008
آخر تحديث 04-02-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

يمكن محو آثار الظلم بالتوبة والاستغفار لأنه فعل طارئ على الإنسان، فالإنسان خيّر بطبعه، والعدل ضمن الخير، وشرط ذلك تغيير الظلم إلى عدل، بالرجوع عنه، وإرجاع الحق إلى المظلوم، وذلك يتطلب يقظة الضمير وسماع صوت الحق. فإن لم تتم التوبة والاستغفار عن الظلم فإن الظالم ينال جزاءه من العذاب.

يبرز اليسار الإسلامي المفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في القرآن الكريم كرد فعل على تركيز اليمين الإسلامي على الشعائر الصورية والعقائد الإيمانية، والغاية إعادة توجيه المسلمين نحو العالم بعد أن فقدوا السيطرة عليه لمصلحة الأمم الأخرى الذين استعبدتهم واحتلتهم ونهبت ثرواتهم.

ومن ذلك مفهوم «الظلم» في القرآن الكريم، وهو مفهوم رئيسي أهم من العدل، فقد ذكر مئتين وتسع وثمانين مرة في حين ذكر «العدل» ثماني وعشرين مرة أي نحو عشرة أضعاف، فمن يحارب الظلم يحقق العدل. ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح في القواعد الفقهية القديمة.

ومعظم استعمالات اللفظ أفعال وصفات وليست أسماء، فالظلم فعل بشري، وسلوك إنساني، وليس جوهراً ثابتاً. فلم يذكر الظلم كاسم إلا عشرين مرة، والأفعال والصفات نحو خمسة عشر ضعفا من الاسم. والظالمون هم الناس والبشر. وهي الصفة الأكثر استعمالاً نحو نصف الاستعمالات، ولم يذكر المبني للمجهول «مظلوم» إلا مرة واحدة لأنه لا أحد يقبل أن يكون مظلوماً، في الحياة أو في الممات، والمظلوم هو المقتول «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا». والإنسان ظلوم «إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ». وحمل الرسالة والأمانة لتحقيق كلمة الله على الأرض، كلمة العدل والصدق لأنه ظلوم جهول «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ على السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً».

والظلم اشتقاقاً من نفس الكلمة التي تعني الظلام، فالظلم ظلام، والظلام ظلم للناس، وهو ما يحدث من انقطاع التيار الكهربائي في غزة. وظلمة القلب أشد لأنها تمنع الرؤية.

ومن مظاهر الظلم عبادة غير الله «يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ»، أي عبادة الأهواء والمصالح والقوة والثروة بلا قانون، فالله نموذج العمل الصالح ومعيار الفضيلة. ومن مظاهره تبديل قول الله وآياته «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا»، أي تبديل الحق باطلا والباطل حقاً، كما تفعل أميركا في العراق وأفغانستان، وكما تفعل إسرائيل في فلسطين، وكتم الشهادة ظلم كما تفعل أوروبا بالنسبة لحقوق الفلسطينيين والعدوان الإسرائيلي «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ».

والظلم أنواع: أولها ظلم النفس وهو الأكثر استعمالاً «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»، فالظلم ظلم للنفس قبل أن يكون ظلما للناس، وهو تخلي الإنسان عن قيمه ومبادئه ومثله وفضائله ومنها العدل. ظلم النفس يحول الإنسان إلى ظالم لنفسه ولغيره، وهو ليس من الله، فالله لا يظلم أحداً، لذلك يُستعمل في حقه صيغ المبالغة «وَمَا رَبُّكُ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ» و«وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»، و«وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ». الله هو المقسط، والقائم بالقسط، وهو من صفاته. والله لا يخاطب الظالمين «وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا»، لأن الظلم كفر به. وإنكار لشريعته، والتحول من الإنسانية إلى الحيوانية، والظلم للناس بعد الظلم للنفس «إِنَّمَا السَّبِيلُ على الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ»، الظلم في المجتمع وفي العالم، ضد الأفراد والجماعات والطبيعة، في الاستغلال والاحتكار وتلوث البيئة.

ومن مظاهر الظلم الجشع في الدنيا والطبع والرغبة في الاستيلاء على كل شيء وحرمان الآخرين «قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ»، وضم نعجة الآخر إلى التسع والتسعين نعجة التي له. فرأس المال لا سقف له، وزيادة الثروة لا حدود لها، وتراكمها بلا نهاية، والظلم فتنة وشقاق وخلاف واتباع للأهواء كما يحدث الآن في لبنان بين الموالاة والمعارضة، وفي فلسطين بين «فتح» و«حماس» لأنه تغليب للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وللسلطة على الوطن، وللرئاسة على التجرد، وللدنيا على الآخرة.

والربا من مظاهر الظلم وجميع أنواع الربح غير المشروع «وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ». فالربا استغلال لحاجات الناس، وتوليد المال للمال بلا جهد، وأكل أموال الناس بالباطل ظلم «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتَامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا». وهو حوب كبير.

واليهود نموذج الشعب الظالم لنفسه ولغيره، لذلك حرم الله عليهم ما سألوا عنه، «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عليهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ». طالما أغار على باقي القبائل السامية واستولى على أراضيها وثرواتها كما فعلوا مع الكنعانيين. والظالمون لا أنصار لهم على عكس ما يحدث الآن من مناصرة الولايات المتحدة لإسرائيل وتأييدها العدوان والاحتلال بدعوى الدفاع عن النفس «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ». والظالمون بعضهم أولياء بعض كما هي الحال في تأييد أميركا لإسرائيل. فأميركا ظالمة لشعوب العالم احتلالا وغزوا أو نهبا للثروات «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ».

لذلك قامت الشريعة على العدل، وتعديها ظلم «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»، للتخفيف من ظلم البشر بعضهم لبعض وإيجاد ميزان عدل يحكم بينهم.

والظلم يمكن محو آثاره بالتوبة والاستغفار لأنه فعل طارئ على الإنسان، فالإنسان خيّر بطبعه، والعدل ضمن الخير، «إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ». وشرط ذلك تغيير الظلم إلى عدل، بالرجوع عن الظلم، وإرجاع الحق إلى المظلوم، وذلك يتطلب يقظة الضمير وسماع صوت الحق. فإن لم تتم التوبة والاستغفار عن الظلم، وظل الظلم على غيّه وانتهى العمر وأتى وقت الحساب فإنه ينال جزاءه من العذاب، ولا يمكن أن يفتدي نفسه حتى لو جاء بمثل هذه الأرض ذهبا. ويوم الحساب يقوم على العدل المطلق «وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً»، و«ثُمَّ تُوَفى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ».

والظلم إيذان بخراب العمران كما لاحظ ابن خلدون من قبل الظلم ضعف والقوة للعدل، الظلم ريح عاتية تهب على الناس ولا تبقى «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا». لا يبقى الظالمون ويهلكون «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا»، و«وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا». تهلك الشعوب والأقوام بالظلم «وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا». هذا هو قانون التاريخ، تندثر الأمم بالظلم، وتبقى بالعدل، والظلم مهما طال ينقلب على الظالمين «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ». لم يبق شعب ظالم، وانتهى فرعون وقومه «فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ».

والظلم لا يخيف، ويمكن مواجهته «إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي»، فالإنسان ظلوم ولكنه خليفة الله في الأرض. يحقق كلمته، ويطبق شريعته.

وتكون المواجهة بالقول والفعل، بالجهر والجهاد «لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ»، والساكت عن الحق شيطان أخرس. وأذن بالقتال للذين ظُلموا «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ». والهجرة المؤقتة من ديار الظالمين من أجل العودة إليها. فلا هجرة بعد الفتح «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً»، و«رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا». حينئذ يكون الظلم شاملا فتنهار الدول. ولا يجد الظالم من يظلمه إذا غادره الناس، وقاطعوه، وأداروا له ظهورهم.

العدل أساس العمران، والظلم خراب، وإمام كافر عادل خير عند الله من إمام مسلم ظالم.

* كاتب مصري

back to top