النظافة المفرطة وهاجس الترتيب من مظاهره الكثيرة الوسواس القهري... خوف وعادات تطاردنا
ننشأ منذ الصغر على مبدأ «النظافة من الإيمان» وواجب ترتيب الغرفة والألعاب وتنظيم أوراقنا الشخصية وثيابنا والاهتمام بنظافتنا الشخصية والحفاظ على محيطنا. أمور تربوية بديهية.
لكن المشكلة هي عندما يتحوّل هذا الروتين العاديّ إلى وسواس مرضيّ قهريّ لا نستطيع لجمه والتحكّم فيه فيصبح هاجس الترتيب والتنظيم والنظافة عائقاً أمام الحياة الطبيعيّة.متى تخرج الأمور على السيطرة؟ وما العمل للكفّ عن استخدام هذه التصرفات على نحو مبالغ فيه؟ ومتى ندقّ ناقوس الخطر؟وسواس قهريّبين المزاح والجدّ، لا مجال لاختلاط الأمور. صحيح أنّ بعضنا منظّم أكثر من سواه ويبذل جهداً إضافياً للترتيب ويهتمّ بالنظافة المطلقة، لكن ثمة حدود واضحة منطقيّة يقبلها العقل ولا يتخطاها الإنسان العاديّ. أمّا في الحالات المرضية فيتختلف الأمر. تقول الدكتورة جيهان رحيّم الاختصاصية في الطب النفسي: «يعتبر اضطراب الوسواس القهريّ مرضاً سلوكياً-عصبياً يتمثل برغبة قويّة لدى المرء في السيطرة على المحيط الخارجيّ وفي الأفعال المتكررة التي لا يرغب فيها المرء وتصدر رغماً عنه حتى لو حاول تلافيها والتخلص منها. يعرف أنها أفعاله وأفكاره وليست هلوسات. يلجأ الشخص المصاب بهذا الوسواس إلى أفعال قهريّة لا يستطيع الامتناع عنها لأنها تخفف من قلقه». بيد أنّ هذا القلق يخفّ لفترة محدودة ثمّ يعود مرّة أخرى، ما يستدعي من المريض بالوسواس القهريّ تكرار أفعال بصورة مبالغ فيها قد تؤدي إلى خسارته المعنويّة والماديّة.من الأمثلة الشائعة تكرار غسل اليدين لأكثر من عشر مرّات يومياً خوفاً من التقاط الجراثيم واستغراق وقت في هذه العملية أو المبالغة في الترتيب فلا يسمح بنقل قطعة من مكانها إلاّ على يد الشخص نفسه.أعراض واضحة تنحصر أعراض الوسواس القهري في وساوس وأفعال قهرية. توضح د. رحيّم: «عندما يكون الشخص مصاباً بهذا المرض يتعرّض لأفكار أو اندفاعات أو خيالات تأتيه رغماً عنه، وإن كان عارفاً أنها ليست مقبولة. هذا النوع من العوارض يتجلّى في الوسواس. أمّا الأعراض الأخرى فعبارة عن الأفعال القهريّة أو الأفعال المكرّرة أو الأفعال العقلية مثل العدّ أو إعادة الكلمات سرّاً... يجد المرء نفسه مرغماً على ذلك استجابة لأفكار وسواسية أو وفق تعليمات صارمة غير مرنة وأفعال نمطيّة».الفرق شاسع بين حبّ الترتيب والإصابة بالمرض القهريّ. فعندما تتحوّل الأعراض إلى مرض يشعر الشخص نفسه بالانزعاج من حالته، لذا يصنّف المرض وفقاً لإحساس المريض نفسه إذ يشعر بأنّ زمام الأمور يفلت من يديه وتنتابه عوارض كآبة وحزن.أسباب غامضةإنّ انتشار هذا المرض القهريّ واسع النطاق، إذ يصيب 2 % من البشر. نسبة غير ضئيلة قياساً بهذا النوع من الاضطرابات. النساء والرجال معرّضون على حدّ سواء لهذا المرض. يبدأ في سنّ مبكرة، منذ المراهقة الأولى. تفسّر الدكتورة رحيّم: «حتى الآن لا أسباب واضحة علميّة تخوّل الطبيب تشخيص السبب المباشر للإصابة بهذا النوع من الأمراض. لكن ثمة مزيج من الأسباب البيولوجيّة والتربويّة المندرجة في هذا الإطار. بات معلوماً وفقاً لدراسات أنّ منطقة الدماغ لدى الأشخاص المصابين تعمل بشكل خاطئ قليلاً، بسبب وجود خلل في معدّل مادتي السيروتونين والدوبامين. كما يعتاد الطفل من الناحية التربوية، على تطبيق ما تعلمه. إذا كانت تربيته تفرض التنظيم المستمرّ والمتكرّر فسوف يعتاد هذه الفكرة حتى في غياب الأهل وقد يطوّرها». هكذا يمكن أن يتحوّل التنظيم والترتيب إلى وسواس قهريّ!علاجاتالاعتراف بالأمر خطوة أولى للخروج من المأزق. عندما يقرّ الشخص بأنه تعب من حالته هذه ويريد المساعدة يتوجّه إلى الاختصاصيّ الذي يطرح عليه الأسئلة، يفسّر له حالته ويشخصها وفق إجاباته ويصف العلاج المناسب.ترى د. رحيّم «أنّ العلاج يشمل شقّين متلازمين هما العلاج الدوائي والعلاج السلوكيّ الإدراكي. ثبت أنّ بعض الأدوية المضادة للاكتئاب تخفف هذا الوسواس بنسبة 50 %، فيما يُعمل من جهة أخرى على تغيير سلوك الشخص عبر تعريضه لما يخيفه ويمنعه من تلافي العواقب». بمعنى آخر، في حالة الإفراط في غسل اليدين خوفاً من التقاط الجراثيم يتمّ تعريض الشخص لحالات يخشاها كأن يصافح عدداً من الناس ويُمنع بعد ذلك من غسل يديه. هكذا تدريجياً يتزامن العلاج مع تناول الأدوية. إلى ذلك، يعمل أيضاً على إدراك الفكرة التي أدّت إلى حالة الوسواس فغالباً ما يكون مصدرها إزعاج آخر يترجمه المريض بالوسواس القهريّ. ينبغي إذاً فهم الموضوع من نواحيه كافة للتمكّن من معالجته. إنّ الأشخاص المصابين بوسواس قهريّ أو ذوي الشخصية الوسواسية في التنظيم والترتيب هم غالباً عمّال نشيطون وفاعلون يتولّون مهمّات دقيقة تقتضي التنظيم والدقة، كالمحاسبة مثلاً أو الأعمال التقنية الدقيقة. يظهر هؤلاء قدرة هائلة على التركيز. توجّه الدكتورة رحيّم نصيحة أساسية: «عدم الخجل من هذه الحالة القهرية أو نفيها والتهرّب منها بالمزاح والضحك، فهي قابلة للعلاج متى أيقن الشخص مدى تأثيرها السلبيّ على نواحي حياته كافة».