السياسة والمجتمعات بين الأفراح والأتراح

نشر في 24-02-2008
آخر تحديث 24-02-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

أغرب ما وقع في مصر ولا يكاد أحد يطرحه للتفسير هو أنه رغم قيام الدولة المصرية بواجبها في تشييع جنازة رئيس مجلس وزرائها الأسبق والرجل الذي قام بتصنيع مصر، وهو أيضاً الذي حضّرها لحرب أكتوبر فلا الجنازة ولا العزاء كانا على المستوى اللائق بهذه الشخصية الهائلة في تاريخ البلد.

ما أغرب مواقف الشعوب والمجتمعات من الأحداث. كل ما يحتاج العجائز أن يفعلوه هو تأمل ميدان التحرير وسط العاصمة المصرية عبر الزمن ليسجلوا ويتساءلوا عن دلالات الأحداث والتجمعات الكبيرة التي تعبره، وهذا الميدان بالذات يصلح لتسجيل الوعي الشعبي بالشأن العام أو بغياب هذا الوعي، ولن نذهب بعيداً في الماضي البعيد، إذ تكفينا متابعته خلال الأسابيع القليلة الماضية.

وأعتقد أنه رغم إعجاب الجميع بالمبنى الأرستوقراطي النائم أو الناعم الذي يحتل مساحة مميزة جداً في الميدان فإن أحداً لن يذكره قريباً لأنه كان ولايزال تابعاً لوزارة الخارجية المصرية، وهم لا يذكرونه لأنهم لا يكادون ينتبهون للشأن السياسي الداخلي أو الخارجي، وعلى العكس تماماً فإن الجميع يتذكر مبنى المجمع الشهير وهو من أقبح المباني الرسمية ولكنك لا تستطيع الاستغناء عن «خدماته الإجبارية».

وأبناء الطبقة الحاكمة سيتذكرون بسهولة بعض أهم الفنادق التي تطل على الميدان الشهير وأهمها من دون شك هيلتون النيل وهو المكان المفضل لحفلات الزواج الاستعراضية.

ولست متأكداً على الإطلاق كم مصرياً سوف يتذكر أجمل مباني القاهرة الحديثة على الإطلاق وأكثرها قرباً والتحاماً مع الوطنية المصرية وهو مبنى المتحف المصري.

وعلى العكس تماماً فالميدان باعتباره مجرد فضاء هو أكثر الأماكن شعبية لشباب المصريين من كل الطبقات حيث تبدأ أو تنتهي به كل محاولة للتنزه.

بطولة أفريقيا

وهذا المعنى العام هو ما يهمنا بالنسبة للحدث الأول الذي نشير له هنا وهو فوز مصر بدورة كرة القدم في القارة الأفريقية، فازت مصر بالدورة الأفريقية فانقلبت الشوارع إلى مهرجانات للفرح الشعبي الطاغي. الحقيقة أن الحكومة نفسها أخلت الشوارع والطرقات بما فيها أهم الميادين: ميدان التحرير من كل الرموز الرسمية حتى تسمح بتدفق الفرح الشعبي من دون أدنى عوائق... الشعب احتل الميدان تماماً وكادت حركة المواصلات تشل في هذه البؤرة المركزية والتي لا غنى عنها لكل حركة ميكانيكية في هذا البلد. ولأن استعراض الفرح الشعبي في هذا الميدان بالذات صار ضرورة فقد غرق في مظاهر فرح جماعي أشك أننا سنشهدها في أي يوم نحقق فيه انتصاراً علمياً أو فكرياً أو ثقافياً أو حتى عسكرياً. بل أزعم أننا لم نفرح بكل هذه القوة منذ حرب أكتوبر 1973 التي لم تسمح بطبيعتها بتجليات أو مسيرات شعبية كبيرة.

ثقافة الموت... وأشياء أخرى

الجميع على الإطلاق تقريباً سوف يشيرون إلى مسجد عمر مكرم، وإن كان مبنى الخارجية هو تاريخ مصر قبل الثورة والمتحف القومي هو أيقونة الوطنية المصرية في كل العصور فالمسجد هو أشهر علامة ليس فقط في ميدان التحرير إنما في القاهرة الحديثة كلها ربما بعد «محطة مصر» مباشرة.

ولكن شعبية هذا المسجد تعود ببساطة لثقافة الموت عميقة الجذور لدى المصريين، فهو مركز العزاء وبداية الجنازات الرسمية والشعبية لعدد هائل من الشخصيات المهمة في مصر، وكان المسجد قد شهد خلال الأسابيع القليلة الماضية جنازات ثلاث من الشخصيات العامة الشهيرة وهما الأستاذان الجليلان مجدي مهنا ورجاء النقاش أما الثالث فهو الدكتور عزيز صدقي.

أغرب ما وقع في مصر ولا يكاد أحد يطرحه للتفسير هو أنه رغم قيام الدولة المصرية بواجبها في تشييع جنازة رئيس مجلس وزرائها الأسبق والرجل الذي قام بتصنيع مصر وهو أيضاً الذي حضّرها لحرب أكتوبر فلا الجنازة ولا العزاء كانا على المستوى اللائق بهذه الشخصية الهائلة في تاريخ البلد. وبالمقارنة فربما تكون الجنازة الشعبية للكاتبين مهنا والنقاش هي الأضخم خلال أعوام، ففضلاً عن العدد الكبير من المثقفين حضرها أيضاً عدد من أبرز الساسة المصريين وعلى رأسهم السيد جمال مبارك، وما يشهد على الحاجة لتفسير هو أن جنازة الأديب العظيم نجيب محفوظ نفسه لم تحظ بمثل الحضور الكثيف الذي شهدته جنازة الناقد الذي أسس شهرته على التعليق على روايات محفوظ: أي رجاء النقاش!

المسألة الجيلية

ولأن الحديث في الأتراح لا يثير الحمية ربما يجب أن ندلف فوراً للتفسير، وما أعتقده هو أن المسألة الجيلية مختلطة مع بعض المشاعر النمطية للجماهير تدخلت بقوة، فرغم أن الرجل كان وافر النشاط في حركة المعارضة في الأعوام الثلاثة الماضية فنسبة قليلة من الشباب كانت تعرف الراحل العظيم عزيز صدقي. واختلط الجانب الجيلي مع الجانب العاطفي في تدفق مشاعر تعاطف عميقة للغاية مع مجدي مهنا، فهو كان قد دخل بصعوبة في العقد الخامس من عمره، وبالمقارنة فإن رجاء النقاش عاش حياة مديدة. ورغم شعبيته بين المثقفين الكهول والعجائز فإن خروج جنازته في توقيت واحد مع مجدي مهنا ساهم كثيراً في مهابتها.

هل يمكن فهم كيف حصل مجدي مهنا ورجاء النقاش على جنازة أكثر شعبية من نجيب محفوظ؟ السؤال نفسه كئيب ولكنه سيطرح حتماً عندما تبدأ الدراسة المنهجية للمجتمع المصري وربما العربي ككل. كتب نجيب وجيله كله وتلاميذه أو معلقيه المباشرين ومنهم رجاء النقاش في العصرين الليبرالي والناصري: أي في عصر الصحف والمجلات وفي عصر كان اتخاذ مواقف مبدئية أمراً شائعاً إلى حد ما.

مجدي مهنا تغمده الله برحمته الواسعة كان صحافيا موفور النشاط ومرموقاً ولكنه لم يتمتع ولو بقسط بسيط من موهبة محفوظ ولا بالثقافة العريضة لغيره الكثيرين ممن عبروا في السنوات الأخيرة. ما منح مهنا تلك الشعبية الكبيرة إضافة إلى محنة السرطان بذاته هو ثلاثة اعتبارات خاصة بعصره: الاعتبار الأول هو أن مهنا سريعا ما صار من أبطال الصحافة التلفزيونية التي تضمن شهرة فورية، والثاني أن مهنا كان رجل مواقف معارضة مبدئية من طراز فريد، فهو لم يكن صاحب أيديولوجية ما ولم تكن له مصلحة سياسية ما وكان معروفاً بالزهد في المناصب بما فيها الصحفية. ومن ثم كان نادراً بالفعل وهو ما جعله أقرب إلى المحكمين منه إلى الحاكمين أو المحكومين في عصر لا يعارض فيه سوى آحاد الصحافيين الكبار.

العامل الثالث يفسر أكثر من غيره وربما يكفينا عن كل ما قلناه حتى الآن. المصريون المحدثون يدركون ولو بالحدس أن بلادهم تعاني أزمة عميقة والشعور السائد هنا هو الإشفاق على النفس والتوق لاستعادة الكرامة. وهذا هو ما يجمع الاحتفال الأسطوري بالفوز بالكرة الأفريقية مع التوديع الرائع لمجدي مهنا ورجاء النقاش. أما الدكتور عزيز صدقي فكان بطلاً في عصر كان فيه بعض العظمة.

* نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام

back to top