الموضوعية ليست خرافة

نشر في 14-07-2007 | 00:00
آخر تحديث 14-07-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

تعلن أغلب وسائل الإعلام أنها تحرص على الموضوعية وتتبناها في ممارساتها المهنية كافة، وكذلك يفعل الإعلاميون. لكن ذلك لم يمنع المتخصصين والجمهور والمراقبين من الاختلاف حيال توافر الموضوعية في التغطية الخبرية للوسائل الإعلامية.

يحلو للكثيرين اعتبار أن الموضوعية وعدم الانحياز في الممارسات الإعلامية مجرد خرافة، وهؤلاء يؤكدون أن وسائل الإعلام كلها منحازة بدرجة أو بأخرى، بل ويذهبون إلى أبعد من ذلك حين يصرون على أن الانحياز قيمة مستساغة وربما «ضرورية» في العمل الإعلامي.

ونحن هنا نتحدث بالتأكيد عن التغطية الخبرية، إذ تبقى مواد الرأي بأنواعها المختلفة متمتعة بالحرية الكاملة في ممارسة الانحيازات. وتكشف مراجعة فاحصة للأداء الخبري في معظم وسائل الإعلام عن درجات متباينة من ممارسة الرأي في التغطية الخبرية. ويمكن القول إن خبراً من عشرين كلمة، ضمن السياق الذي ينشر أو يذاع فيه، يمكن أن يقدم مثلاً على محاولة تحقيق الموضوعية، كما يمكن أن يقدم أنموذجاً لنقيضها؛ الذاتية، والانحياز.

والموضوعية هي إحدى أهم القيم في العمل الإعلامي، ويتسع مفهومها في الممارسة والأدبيات الإعلامية ليشمل قيماً عدة؛ منها: التوازن والمصداقية والحياد والنزاهة.

وتعلن أغلب وسائل الإعلام أنها تحرص على الموضوعية وتتبناها في ممارساتها المهنية كافة، وكذلك يفعل الإعلاميون. لكن ذلك لم يمنع المتخصصين والجمهور والمراقبين من الاختلاف حيال توافر الموضوعية في التغطية الخبرية للوسائل الإعلامية.

وتعد الموضوعية كقيمة مهنية مفهوماً جدلياً بامتياز؛ ويتجلى ذلك فيما تتلقاه وسيلة إعلام واحدة من تقييمات متضاربة في شأن درجة الموضوعية في أدائها، حتى بات من المعتاد أن ينقسم الجمهور والمتخصصون حيال صحيفة أو محطة تلفزيونية إلى قسمين؛ أولهما يعتبرها مثلاً للأداء الموضوعي، وثانيهما يراها قمة في الانحياز واللاموضوعية.

ويعكس هذا الجدل ما يكتنف مفهوم الموضوعية من اختلاف وتباين، ويوضح صعوبة تحديد رؤية متماسكة حيالها، لكونها ترتبط بالأطر الدلالية والأنماط الثقافية والسياقات المجتمعية والتوجهات الإيديولوجية للأفراد والجماعات والمؤسسات والأمم. وقد أدى هذا إلى وجود اتجاهين أساسيين حيال الموضوعية في العمل الإعلامي: الاتجاه الأول يرى أن «الموضوعية خرافة، وأنه قد آن الأوان لأن يصبح القائلون بالموضوعية أكثر واقعية، وأن يعترفوا بأنها شيء لا وجود له، إلّا في أذهانهم فقط. فإذا كانت الموضوعية تتطلب أن تكون المواد الإعلامية أمينة ونزيهة وناطقة بالحق، فأين هي هذه التقارير؟ فلا يوجد مراسل صحفي يعرف الحقيقة كل الحقيقة. ومن ثم فليس بمقدوره أن يكتب تقريراً يضاهي الواقع بكل أبعاده». وتتعزز آراء أصحاب هذا الاتجاه بدراسات علم الدلالة، والدراسات الأنثروبولوجية. إذ يصف عالم الأنثروبولوجي الشهير إدوارد هوك، كيف تؤثر الثقافة في الطريقة التي يرسل بها الشخص الرسائل الاتصالية ويستقبلها، بقوله: «إن الثقافة قالب وُضعنا فيه، فهي تسيطر على حياتنا اليومية بطرق عديدة».

ويرى ولبور شرام أن «عملية التعرض الانتقائي ليست عملية قاصرة على جمهور يتعرض للمحتوى الذي يريده فحسب، ولكنها تحدث كذلك للقائمين على اختيار الأخبار، فهم يختارونها، في ضوء خبراتهم، ويفسرونها لكي تقاوم أي تغيير في ثقافاتهم والأطر المرجعية لأفكارهم».

الاتجاه الثاني يرى أصحابه أن الموضوعية هدف صحفي يمكن تحقيقه، ويمكن للصحافي أن يكون موضوعياً إذا أراد، وسعى من أجل ذلك. وهو وإن لم يصل إلى الشكل الدقيق للموضوعية، الذي يتحدث عنه أصحاب الاتجاه الأول، فإنه يستطيع الوصول إلى درجة من الموضوعية، تثبت أن الموضوعية مفهوم ذو معنى، وليس خرافة على الإطلاق. والسؤال الأساسي، الذي يطرحه أصحاب هذا الاتجاه المؤيد للموضوعية هو: ما موقف المراسل، تجاه تقريره الإخباري، وتجاه جمهوره؟ هل يريد أن يكون محايداً؟ هل يسعى إلى تفادي الانحيازات والتزام التوازن والإنصاف؟ فالموضوعية، يمكن أن تكون مفهوماً واقعياً، في وسائل الإعلام، على الرغم من كل العقبات التي تعترضها.

ويعزز أصحاب هذا الاتجاه طرحهم بالحديث عن آليات وعناصر يمكن باستيفائها الاقتراب من تحقيق هدف الموضوعية في الأداء المهني الإعلامي؛ مثل: الإحاطة الكافية واللازمة بالموضوع الذي يتصدى الصحافي لمعالجته، ومراعاة الدقة إلى الدرجة القصوى، وتحقيق الإنصاف والحياد، والتوازن، ووضوح الرسالة، حتى في أوقات الخطر، وعدم إهمال الخلفية أو السياق، وإسناد الرأي الى مصدر موثوق وواضح وذي صلة، والعمل لمصلحة الحقيقة، وليس لأي جهة أو اعتبار آخر. ويحض أصحاب هذا الاتجاه الإعلاميين على الإحاطة بآراء الأطراف الفاعلة في الحدث جميعها، حتى في حال تعذر إقصاء الإيديولوجيا، وعدم الاقتصار على نقل آراء الأطراف المنخرطة في القصة، ولكن كذلك الذين يملكون رأياً فيما يحدث، فضلاً عن نشر الحقائق، حتى لو كانت تتحدى الجو العام.

والموضوعية في المناهج العلمية تعبير عن إدراك الأشياء على ما هي عليه، دون أن تشوبها أهواء أو مصالح أو تحيزات، وفي التغطية الإعلامية هي نوع من المعالجة المهنية والثقافية والأخلاقية للمادة الإعلامية، بحيث تتوافر فيها أبعاد الموضوع كلها، والاتجاهات المطروحة حياله، بطريقة متوازنة، تستند إلى حجج منطقية، وتتميز بالدقة، والإنصاف في العرض. وتفصل الآراء عن العناصر الخبرية، وتنسبها بوضوح وصراحة، وتتجرد من الأهواء والمصالح الخاصة، وذلك في إطار من التعمق والشمولية، يراعي السياق، وعلاقة الخاص بالعام، وربط الجزء بالكل، شرط أن تعكس هذه المادة الإعلامية أولويات الاهتمام عند الجمهور.

والواقع أن الوصول إلى صحافة تقدم هذا النوع من الأداء يبدو صعباً، لكنه ليس مستحيلاً، والأهم من ذلك أن تحقيق الموضوعية هدف يستحق أن نعمل من أجله كإعلاميين، كما أن وسائل الإعلام التي انتهجت وسائل تساعدها على الاقتراب من الأداء الموضوعي هي التي تسود المشهد الإعلامي العالمي اليوم.

 

كاتب مصري

back to top