مشاهدات كينية 1 من 2 : كيباكي في عين العاصفة!
إن الصراع الدائر الآن في كينيا تحت لافتة الانتخابات الرئاسية يحجب أسباباً بنيوية أعمق وأبعد من مجرد سير العملية الانتخابية، وتزداد وطأة هذه النتيجة مع انتشار الفقر على نطاق واسع في كينيا، وتتزايد أزمة الانتخابات الرئاسية على خلفيات طبقية وعرقية لتشعل حريقاً يستعصي على الإطفاء.تستقطب كينيا الاهتمام الدولي منذ عدة أسابيع ويندر أن تمر نشرة إخبارية لا تحتوي على أعداد ضحايا جدد فيها، منذ إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في نهاية العام الماضي، ومرد الاهتمام هنا ليس طبيعتها الخلابة ولا تنوعها العرقي الفريد، ولكن نتائج الصراع الدائر بين الرئيس الممسك بالسلطة حالياً مواي كيباكي ومعارضه رايلا أودينغا، إذ أشارت تقارير المنظمات الدولية إلى تفوق واضح للمرشح المعارض رايلا أودينغا على منافسه الرئيس الحالي كيباكي، إلا أن نتيجة الانتخابات جاءت خارج التكهنات والسياق وأعلنت فوز كيباكي، سارع الأخير بحلف اليمين القانونية على الرغم من اعتراض المعارضة وزعيمها أودينغا ومعهم الكثير من المنظمات الحقوقية العالمية، ومن يومها وحركات الاحتجاج تتسع لتشمل أغلبية الجغرافيا الكينية خصوصاً في العاصمة نيروبي ومدينة كيسومو في غرب البلاد معقل أودينغا.احتلت كينيا تقليدياً مكانة مميزة في القارة الإفريقية، فهي من الدول القلائل في شرق إفريقيا التي لم تُقاسِ أهوال الحروب الأهلية مقارنة بدول جوارها: أثيوبيا والصومال والسودان وأوغندا ولا يشبهها في ذلك إلا تنزانيا الواقعة إلى الجنوب الغربي منها، وتشكل المنطقة الجنوبية الشرقية وعاصمتها ميناء مومباسا مركزاً تجارياً وملاحياً ضخماً في شرق إفريقيا، وامتازت كينيا دوماً على أغلب جيرانها من دول شرق إفريقيا بالثراء الكبير في مواردها الزراعية والمائية، علاوة على ارتباطها العميق بالتجارة الدولية، وعرفت كينيا الاحتلال الإنكليزي فأخرجت إلى العالم حركة «الماو ماو» الشهيرة، التي أفلحت عبر عملياتها السرية وعنفها الذائع الصيت ضد المتعاونين مع الاحتلال البريطاني في طرد وجوده العسكري منها، ثم جاء دور أول رئيس لها بعد نيلها الاستقلال عام 1963 جومو كينياتا ليقود البلاد ويعطيها اسمه، ويقودها في مرحلة ما بعد الاستعمار العسكري. بدأ احتلال كينيا الرسمي في عام 1885 حيث احتلت ألمانيا المناطق المحاذية للساحل مقتطعة إياها من سلطان زنجبار الذي كان الساحل الشرقي لكينيا تحت سيطرته وحكمه، ثم تلت ألمانيا بسنوات قليلة بريطانيا التي أعلنت كينيا مستعمرة من مستعمرات التاج البريطاني. وتشكّل أكواخ الصفيح حزاماً محكماً حول العاصمة نيروبي من كل الجهات إلا جهة واحدة فقط تقع على تلال مشرفة على العاصمة ويقطنها علية القوم في كينيا وأغلبهم من البريطانيين والأوروبيين مع أقلية كينية صغيرة تعمل في التجارة وتتحلق مصالحها حول حكومة الرئيس مواي كيباكي. يبدو الفقر في كينيا قدراً لا فكاك منه إلا لتلك القلة، ويترافق مع أعمال جريمة منظمة تبدأ في الشارع ولا تنتهي عنده، ولا يمر يوم إلا تتصدر الصحف الكينية أعمال السطو المسلح على المصارف والشركات الكبرى، ولا تقتصر صورة كينيا على التناقض الواقع بين وفرة الموارد والفقر المدقع، أو حتى على الهوة الواضحة بين سكان البلاد الأصليين –باستثناء قلة قليلة منهم- والإقطاعيين الأوروبيين الذين يتحكمون بثروات البلاد ويمتلكون نسبة كبيرة من الأراضي والعقارات، يطاول التناقض أيضاً سكان كينيا أنفسهم، الذين ينتمون إلى قبائل مختلفة تتصارع في ما بينها على الأرض والثروة. ينقسم الكينيون إلى عائلتين قبليتين كبيرتين هما: قبائل البانتو التي تنتشر انتشاراً كبيراً في جنوب القارة الإفريقية وينتمي إليها نحو 200 مليون إفريقي وتعمل تاريخياً في الزراعة، ومن أفخاذ قبيلة البانتو نشأت قبيلة الكيكويو التي ينتمي إليها الرئيس الحالي كيباكي ومؤسس كينيا جومو كينياتا، وهي القبيلة التي سيطرت تاريخياً على السلطة السياسية في كينيا والأكبر عدداً في كينيا بنسبة تبلغ 21% من السكان. والعائلة القبلية الثانية الأكبر هي مجموعة قبائل النيلوتو التي تنتشر في كينيا وغربها تحديداً حتى جنوب السودان وتعمل تاريخياً برعي الماشية، ومن أفخاذ هذه العائلة قبيلة الماساي الشهيرة وقبيلة اللو التي ينتمي إليها زعيم المعارضة رايلا أودينغا.تقودك الحقيقة الأخيرة إلى نتيجة أساسية مفادها أن الصراع الدائر الآن في كينيا تحت لافتة الانتخابات الرئاسية يحجب أسباباً بنيوية أعمق وأبعد من مجرد سير العملية الانتخابية، وتزداد وطأة هذه النتيجة مع انتشار الفقر على نطاق واسع في كينيا، وتتزايد أزمة الانتخابات الرئاسية على خلفيات طبقية وعرقية وجهوية لتشعل حريقاً يستعصي على الإطفاء منذ شهر مضى.الدرس الأساس الذي يمكن الخروج به من أزمة كينيا الراهنة أن توسيع نطاق المشاركة ومحاربة الفقر لم يعودا أساساً لبقاء الأنظمة السياسية فحسب، بل ربما شرطاً ضرورياً لبقاء الأوطان بمعناها المجرد.* كاتب مصري