التضخم والواقع المرير

نشر في 06-03-2008
آخر تحديث 06-03-2008 | 00:00
إذا انزلقت الولايات المتحدة من الركود الطفيف إلى حالة من الركود العميق، فلسوف تؤدي العواقب الانكماشية على مستوى العالم إلى إلغاء بعض الضغوط التضخمية التي يواجهها العالم، فتنهار أسعار السلع العالمية، وتتوقف أسعار العديد من السلع والخدمات عن الارتفاع بالسرعة نفسها التي سترتفع بها معدلات البطالة والفائض في الإنتاج.
 بروجيكت سنديكيت مع استمرار معدلات التضخم في الارتفاع حتى عنان السماء في كل مكان، فربما يكون محافظو البنوك المركزية العالمية في حاجة إلى هزة لإيقاظهم من حالة الرضا عن الذات التي انغمسوا فيها. ما رأيكم في عقد أحد اجتماعاتهم نصف الشهرية في زيمبابوي التي تعاني من فرط التضخم؟ قد لا تكون هذه الفكرة مريحة، إلا أنها تثقيفية.

طبقاً لجهاز الإحصاء الرسمي في زيمبابوي، بلغت نسبة التضخم %66000 أثناء عام 2007، وهو ما يبدو أقرب إلى ألمانيا في عهد وايمار من أفريقيا في اليوم الحاضر. ورغم أن أحداً لا يدري كيف تمكنت الحكومة من تقدير الأسعار، نظراً لعدم وجود أي شيء يمكن بيعه في الأسواق تقريباً. فضلاً عن ذلك فإن أغلب المؤشرات تقترح أن زيمبابوي لديها فرصة طيبة لكسر الأرقام القياسية العالمية في التضخم.

بطبيعة الحال، ونظراً لما يتمتعون به من غرابة أطوار، فربما يقرر محافظو البنوك المركزية أن الاجتماع في هراري سوف يكون غير لائق إلى حد كبير وغير مستساغ سياسياً. من حسن الحظ، هناك العديد من مواقع التضخم اللطيفة غير هراري، ولو أنها ليست على القدر نفسه من الإثارة. إذ أن معدلات التضخم في روسيا وفيتنام والأرجنتين وفنزويلا، على سبيل المثال لا الحصر، لم تنخفض قط عن رقمين.

الحقيقة أن محافظي البنوك المركزي بإمكانهم أن يجتمعوا في أي مكان تقريباً، باستثناء اليابان التي تعاني الانكماش، لكي يشاهدوا بأعينهم كيف ترتفع معدلات التضخم. كان انزعاج السلطات الصينية إزاء ارتفاع معدل التضخم في البلاد إلى %7 إلى محاكاة الهند وفرض ضوابط على أسعار المواد الغذائية. وحتى الولايات المتحدة كانت تعاني تضخما بلغت نسبته %4 أثناء العام الماضي، على الرغم من اقتناع مجلس الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي) على نحو ما بأن أغلب الناس لن يلاحظوا ذلك.

يزعم العديد من محافظي البنوك المركزية وخبراء الاقتصاد أن ارتفاع معدلات التضخم العالمية اليوم ليس أكثر من وعكة مؤقتة، نتيجة لارتفاع أسعار الغذاء، والوقود، وغير ذلك من السلع والمواد الخام. الحقيقة أن أسعار العديد من السلع الرئيسية ارتفعت بنسبة 25 إلى %50 منذ بداية هذا العام. ولكن إذا ما تصور محافظو البنوك المركزية أن التضخم الحالي هو ببساطة نتاج لندرة مؤقتة في الموارد، وليس نتيجة للسياسات النقدية الرخوة، فإنهم مخطئون على نحو جلي. إذ إن الواقع يؤكد أن معدلات التضخم- وفي النهاية توقعات التضخم- سوف تستمر في الارتفاع والصعود في أغلب أنحاء العالم، ما لم يبدأ محافظو البنوك المركزية في إحكام سياساتهم النقدية.

لقد أصبحت الولايات المتحدة الآن المركز الأصلي لانطلاق موجة التضخم العالمية. ففي مواجهة التركيبة الشرسة المؤلفة من انهيار أسعار الإسكان وانهيار أسواق الائتمان، سارع الاحتياطي الفيدرالي إلى تخفيض أسعار الفائدة في محاولة لدرء الركود الاقتصادي. ولكن حتى لو لم يعترف المركزي الأميركي بذلك في تكهناته، فإن ثمن «وثيقة التأمين» هذه سوف يكون ارتفاع معدلات التضخم على نحو شبه مؤكد في المستقبل القريب، وربما لأعوام عديدة.

كان من الممكن أن يتم احتواء التضخم في أميركا لولا أن العديد من الدول، من الشرق الأوسط إلى آسيا، تربط عملاتها بالدولار. وثمة دول أخرى، مثل روسيا والأرجنتين، قد لا تربط عملاتها بالدولار حرفياً، إلا أنها تحاول تلطيف التحركات بين عملاتها وبين الدولار. ونتيجة لهذا، فكلما بادر مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى تخفيض أسعار الفائدة، شكل ذلك ضغوطاً على «كتلة الدولار» بأكملها، ودفعها إلى محاكاة المركزي الأميركي، خشية أن تنخفض قيمة عملاتها نظراً لمساعي المستثمرين الرامية إلى تحقيق عائدات أعلى.

وعلى هذا فإن السياسة النقدية الأكثر ارتخاءً في الولايات المتحدة تعمل على ضبط إيقاع التضخم في قسم ضخم من الاقتصاد العالمي- الذي قد لا يقل عن %60. ولكن نظراً لتمتع الاقتصاد في أغلب بلدان الشرق الأوسط وآسيا بهيئة أقوى كثيراً من حال الولايات المتحدة الآن، ومع تصاعد معدلات التضخم بصورة حادة في أغلب بلدان الأسواق الناشئة، فإن تبني الحوافز النقدية العنيفة هو آخر ما تحتاج إليه هذه البلدان في الوقت الحالي.

مازال البنك المركزي الأوروبي ينعم بحالة من الاسترخاء الآن، إلا أن تراجعه عن رفع أسعار الفائدة في الوقت الحالي ربما يرجع جزئياً إلى خشيته من أن يؤدي ذلك إلى رفع قيمة اليورو، التي سجلت مستويات قياسية الآن بالفعل. كما يخشى المركزي الأوروبي أن يضطر إلى تخفيض أسعار الفائدة في النهاية، إذا ما ثبت أن حالة الركود في الولايات المتحدة قد تنتقل بالعدوى إلى أوروبا.

ما الذي قد يحدث الآن إذن؟ إذا ما انزلقت الولايات المتحدة من الركود الطفيف إلى حالة من الركود العميق، فلسوف تؤدي العواقب الانكماشية على مستوى العالم إلى إلغاء بعض الضغوط التضخمية التي يواجهها العالم، فتنهار أسعار السلع العالمية، وتتوقف أسعار العديد من السلع والخدمات عن الارتفاع بالسرعة نفسها التي سترتفع بها معدلات البطالة والفائض في الإنتاج.

من المؤكد أن الركود في الولايات المتحدة سوف يجبر المركزي الأميركي على إجراء المزيد من تخفيض أسعار الفائدة، الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى تفاقم المشاكل لاحقاً. إلا أن الضغوط التضخمية سوف تكون أشد وطأة إذا ما ظلت حالة الركود في الولايات المتحدة معتدلة، وإذا ما استمر النمو العالمي على ثباته. ففي هذه الحالة قد ترتفع معدلات التضخم بسهولة حتى تبلغ نظيراتها أثناء الثمانينيات (إن لم يكن أثناء السبعينيات) في القسم الأعظم من العالم.

حتى الآن، كان أغلب المستثمرين يتصور أنه من الأفضل أن يجازف بارتفاع معدلات التضخم لبضع سنوات، بدلاً من تقبل الركود، حتى ولو كان طفيفاً وقصير الأمد. إلا أنه ينسى أيضاً بسهولة التكاليف المترتبة على ارتفاع معدلات التضخم، ومدى صعوبة استقطاع هذه التكاليف من النظام. ربما يكون من مصلحة المستثمرين أيضاً أن يعقدوا بعض مؤتمراتهم في زيمبابوي، وأن يتحققوا من الواقع المرير بأنفسهم.

* كينيث روغوف | Kenneth Rogoff ، أستاذ علوم الاقتصاد والتخطيط العام بجامعة هارفارد، وكان فيما سبق يشغل منصب كبير خبراء الاقتصاد لدى صندوق النقد الدولي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top